للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى توحيد الله]

قال: [وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، شهادة من أخلص لربه، وخلع الأنداد من دونه].

الند: هو الشريك والعدل والمثيل، فإن الله تعالى لا ند له، ولا مثيل له، ولا شريك له.

قال: [وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله على فترة من الرسل].

الفترة: هي انقطاع الوحي بين الرسولين، وكان بين عيسى عليه السلام وبين نبينا عليه الصلاة والسلام حوالي ستة قرون، ولا شك أن هذا زمان طويل كفيل بأن ينسى الناس اتباع عيسى بن مريم عليه السلام، ولذلك اختلط الحابل بالنابل في هذه الفترة، وسمي بالجاهلية لاندراس وغياب العدل بين الناس، وكان القوي يأكل الضعيف، والشريف لا يقام عليه الحد، والضعيف يقام عليه الحد، وانتشرت بدع الجاهلية وشركياتها، فلما كان الأمر كذلك أرسل الله تبارك وتعالى على حين فترة من الرسل -أي: انقطاع الوحي- رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.

قال: [ودروس من الوحي في أعقاب المرسلين، وحجة على العالمين، والخلق في جاهلية جهلاء].

أي: أرسل الله رسوله حجة على العالمين، وكانوا في جاهلية جهلاء.

قال: [صم بكم عن الهدى].

أي: لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يفهمونه [متمسكون بعروة الضلالة والردى]، والعروة: مقبض الدلو، وهو الذي يمسك ويتحكم بالدلو من خلاله، فهم يتمسكون بالضلالة في الجاهلية تمسكهم بهذا الدلو من عروته.

قال: [متمسكون بعروة الضلالة والردى -أي: الهلاك- فدعاهم -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام- إلى توحيد الله عز وجل].

تصوروا أنهم متمسكون بعروة الضلالة فيخرج من بينهم رجل يعرفونه ويعرفون أمانته وصدقه يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، ونبذ جميع هؤلاء الآلهة المزيفة والأنداد الباطلة! بلا شك أنها دعوة في قمة الغرابة، ولذلك لما كان منه عليه الصلاة والسلام ما كان من دعوتهم إلى عبادة الله وحده ونبذ جميع هذه الأنداد والآلهة المزيفة الباطلة، قالوا: عجباً لك أجعلت الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب.

يعني: هذه الدعوة منك يا محمد غير مقبولة بالمرة، أتجعل جميع هذه الآلهة إلهاً واحداً؟! إذا كان لكل واحد أربعة آلهة، واحد في الحرم وثلاثة في البيت، وإذا أراد أن يسافر أخذ أحد الثلاثة معه حتى لا يحرم من العبادة والشرك في سفره حتى يرجع إلى بلده مرة أخرى، أتجعل كل هذا باطلاً ثم تدعونا إلى إله واحد؟! نحن نؤمن بهذا الإله الواحد ونحن نعبده لكن عن طريق هذه الآلهة؛ لأنه لا يصح لنا أن نعبد الله مباشرة، فإنما نتخذ الأنداد والشركاء؛ ليقربونا إلى الله تعالى، ونحن نوقن أن الله تعالى هو الذي خلقنا ورزقنا وسوانا وغير ذلك من سائر صفات الربوبية لله عز وجل!! والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أتاهم بتوحيد الله عز وجل وحده، فهو الذي يستحق العبادة وحده سبحانه، فهؤلاء الآلهة المزعومة يقطعون الصلة بينكم وبين الإله الواحد، فدعاهم إلى توحيد الله عز وجل والإقرار له بالربوبية -وهم كانوا يقرون بالربوبية- واتباع أمره، وإفراده بالعبادة، فأبوا ذلك فصبر منهم على الأذى.

بلا شك أن هذه الدعوة لم تلق قبولاً مطلقاً، بل ولقي صاحبها عليه الصلاة والسلام منتهى الأذى من السب والضرب والشتم والجنون والسحر وغير ذلك من سائر ما رماه به المشركون، حتى ظهرت حجة الله على خلقه، وهذه هي النتيجة الحتمية! من صبر على الحق الذي معه ظفر بالنتيجة المرجوة، ولذلك أقسم الله تبارك وتعالى بالعديد من مخلوقاته، فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣]، قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من الوحي إلا هذه السورة لكفى.

والله تبارك وتعالى بين فيها نوعاً من القسم، وأن لله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، فأقسم بالعصر على اختلاف بين أهل العلم فيه، فقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:٢] أي: كل بني الإنسان في خسارة وهوان في الدنيا والآخرة، فاستثنى الله تبارك وتعالى من عموم الهلاك والخسارة أصنافاً أو صنفاً قد اتصف بصفات أربع هي: الإيمان، العمل الصالح، التواصي بالحق، التواصي بالصبر، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:٣] لم يقل: آمنوا أو عملوا الصالحات؛ لأن الإيمان بغير عمل لا ينفع، والعمل بغير إيمان لا ينفع، فعطف هذا على ذاك لتلازمهما.

ولا شك أن الإيمان حق، والعمل الصالح حق، فلا بد من التواصي بالتمسك بهذا الحق، فأعقب الإيمان والعمل الصالح بتواصي أهل الحق فيما بينهم بهذا الإيمان وبهذا العمل، قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣]، أي: الصبر على طاعة الله، وعلى التمسك بالإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بهذا فيما بينهم! الصبر على الأذى في هذا الحق وفي هذا الإيمان! الصبر على الأذى والتمسك بالدين! الصبر على الدعوة إلى الل