[شرح حديث عمر: (إن موسى قال: يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة)]
قال: [عن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن موسى قال: يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة)]، أي: أرني آدم الذي أخرجنا نحن الذرية وأخرج نفسه من الجنة، فهذه مصيبة حلت بآدم قبل أن تحل بالذرية.
قال: [(فأراه الله عز وجل آدم)]، كلمة (فأراه) تصدق على رؤية المنام كما تصدق على رؤية العين، ولذلك تقول: رأيت فيما يرى النائم وتسميها رؤية، مع أنها في الحقيقة ليست رؤية بمعنى الكلمة، فلما احتملت هذه الكلمة وغيرها من الكلمات المنصوصة في هذا الحديث اختلف أهل العلم في لقاء موسى بآدم، فمنهم من قال: كان لقاء موسى بآدم لقاء أرواح، ومنهم من قال: أحيا الله لموسى آدم فلقيه وكلمه، ومنهم من قال: إن الله عز وجل إنما أرى موسى آدم في قبره، أو أرى آدم موسى في قبره عند الكثيب الأحمر في فلسطين، وغير ذلك من الأقوال، والذي يترجح لدي ما رجحه الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله فقال: وهذا من أبواب الابتلاء في الإيمان.
فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى الأنبياء في ليلة الإسراء وصلى بهم، ولا يجوز أن نتنازع كيف صلى بهم ولا كيف رآهم؟ لكننا نقول: إن هذا باب من أبواب الابتلاء في الإيمان، فإذا عجزنا عن البلوغ والوصول إلى الحكمة من النصوص فلا أقل من أن نسلم في ذلك، ولذلك قال الحافظ ابن حجر قولاً ممتعاً جداً في الفتح في شرح هذا الحديث: وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال، فينبغي الإيمان بذلك، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر.
لكن ممكن أن يقول شخص: أنا مؤمن بعذاب القبر، لكني أريد أن أعرف كيف يقع عذاب القبر؟ وكيف يجلس الميت في قبره وهو ضيق جداً؟ لا تنظروا إلى هذه الغرف الكبيرة، وإنما أصل القبر لحد كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، فاللحد ضيق جداً لا يكاد الإنسان يتقلب فيه حركة واحدة، فما بالك أن يأتي ملكان ويجلسانه ويسألانه وهو يجيبهم؟! ثم إذا تلعثم في الجواب ضرب بمرزبة فغاص في الأرض سبعين ذراعاً، كيف يتم ذلك كله في هذا القبر الضيق الصغير؟ كل ذلك نؤمن به، وأنه على الحقيقة، وأن الله على كل شيء قدير، فإذا كنت أؤمن أن الله على كل شيء قدير، إذاً: أنا أؤمن بأن الله قادر على أن يجمع هذا الكون في بيضة صغيرة، بل يجمع هذا الكون ويدخله سم الخياط، أي: خرم الإبرة؛ لأنه قادر على كل شيء سبحانه وتعالى، ولا أقيس قدرة الخالق بقدرتي، إذ إن قدرتي محدودة ضعيفة، ولها قوانين أرضية سفلية تحكمها، أما الله عز وجل ففوق كل القوانين، وأفعاله لا منتهى لها ولا مثيل لها.
ولذلك نحن نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية يعني أن الله هو الرب الخالق المدبر لشئون خلقه القيوم على شئون عباده، ومعنى توحيد الأفعال، أي: يفعله الله ولا يفعله أحد، كيف ذلك؟ الله تعالى يسمع، فهل يسمع العالم كله منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة كسمع الله؟ لا يسمعون، وإن اجتمعت أسماعهم، فالله تبارك وتعالى هو الذي يخلق ولا خالق غيره ولا رب سواه، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا رجلاً أو امرأة أو طفلاً رضيعاً؛ فهل يستطيعون أن يخلقوا طفلاً رضيعاً كما يخلق الله؟ لا، إذاً: هو واحد في أفعاله، ولو قلت لي: هل بإمكانك أن تدخل هذا السلك في خرم الإبرة؟ أقول لك: أنا أعجز عن ذلك، لكن الله يجمع الدنيا كلها إذا أراد ويدخلها من سم الخياط؛ لأنه على كل شيء قدير.
قال: وليس هو -أي: لقاء آدم لموسى- أول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه.
واعلم أن هذا الكلام بمثابة الأصول القوية المتينة لأهل السنة والجماعة.
قال: ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات، أي: في بيان الحكمة من الأمر أو النهي إذا ضاقت علينا، مثل: لماذا أمرنا الله بصلاة أربع ركعات في الظهر والعصر والعشاء؟ لماذا أمرنا الله بصلاة ركعتين في الصبح والمغرب ثلاثاً؟ وما الحكمة من هذا العدد؟ ولم لمْ يجعل الظهر خمساً أو ثلاثاً؟ خفيت علينا الحكمة ولم يبق لنا إلا وجوب التسليم لله عز وجل.
قال: ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم، أي: التسليم والإذعان لله عز وجل.
وقال ابن عبد البر: مثل هذا عندي -أي: مثل لقاء آدم بموسى- يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق؛ لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلاً، أي: لأنا لم نؤت في بيان المشكلات وحل الغامض من هذا إلا شيئاً نادراً جداً، إذ إن معظم أمور الغيب يجب فيها التسليم ويمتنع السؤال عن الحكمة، وليس هذا في مسائل الغيب فقط، بل من المسائل العملية التي يعملها الناس بالليل والنهار لا يعلمون لها حكمة، ولذلك المني في مذهب جماهير العلماء طاهر ويوجب الغسل، والبول بالإجماع نجس ولا يوجب الغسل، لكن قد يقول قائل: لماذا؟ أنا لا أستطيع أن أقول لك السبب، لكن الذي أس