[أقوال عبد الله بن مسعود في أن العبد لا يذوق طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر]
قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: والذي لا إله غيره لا يذوق أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه.
وعنه قال: لن يجد طعم الإيمان -ووضع يده في فيه- حتى يؤمن بالقدر، ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث]، أي: حتى يؤمن بالبعث بعد الموت.
[وعنه قال: ثلاث من كن فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق -أي: الكذب والمماحلة والمجادلة بالباطل وهو يعلم الحق، ولكنه يماري ويجادل بالباطل- والكذب في المزاحة] وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يمزح ولكن لا يقول إلا حقا، (أتت امرأة تسأله عن الجنة، فقال النبي: لا يدخل الجنة عجوز، فولت المرأة وهي باكية) وهو صلى الله عليه وسلم صادق في ذلك؛ لأنهن لن يدخلنها إلا عرباً أتراباً، أي: في سن واحدة، فلما قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة عجوز) كان صادقاً؛ فولت المرأة باكية حزينة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت لها أنه صادق، ثم أتت امرأة وقالت: (يا رسول الله! أتعرف بعلي؟ قال: نعم، أليس الذي في عينيه بياض؟ - وكل الناس في عينيه بياض - فقالت المرأة: نعم.
يا رسول الله!).
وكان رجل من البادية يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي له بخيرات البادية، وذات يوم قدم المدينة وليس معه شيء، فاستحيا أن يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم بغير شيء؛ فذهب إلى السوق، فلحقه النبي عليه الصلاة والسلام وأتى من خلفه فأغمض عينيه وقال: (من يشتري العبد؟ فقال الرجل: فلما وضعت يدي على يد النبي عليه الصلاة والسلام علمت أنه هو، فما يد أنعم من يده ولا أطيب، فقلت: يا رسول الله! إذاً: يجدني كاسداً).
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب الممازحة والملاطفة: (من يشتري العبد؟ قال الرجل: إذاً: يجدني كاسداً يا رسول الله! قال: بل أنت رابح، بل أنت رابح، بل أنت رابح)، وهذه بشارة عظيمة لهذا الرجل بالربح الحسن يوم القيامة، وغير ذلك من ممازحاته عليه الصلاة والسلام.
(ومر النبي عليه الصلاة والسلام على امرأة في الطريق فقال: أتعلمين من أمر قريش شيئاً، ومن أمر أبي سفيان؟ فقالت: لا، قال: بل تعلمين من أمره شيئاً فأخبرينا، وأخبرينا عن ذاك الرجل الذي خرج في قريش يزعم أنه نبي، فقالت المرأة: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل لا نخبرك حتى تخبرينا أنت؟ فلما أخبرتهم بخبر قريش وبخبر أبي سفيان -وكان ذلك في غزوة بدر- قالت: هذا خبر قريش وخبر أبي سفيان، فمن أنتما ومن أين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انطلق عليه الصلاة والسلام).
فقوله: (نحن من ماء) لم يكذب فيه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه عرض به، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب.
(قال: نحن من ماء، قالت المرأة: من أي ماء أنتم؟ فانطلق النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجب المرأة).
وهذا كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:٣٠].
قال: [ثلاث من كن فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق، والكذب في المزاح، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقال ابن مسعود: لأن يعض الرجل على جمرة حتى يبرد -يبرد ويسكن ويموت وينام كلها بمعنى واحد- خير له من أن يقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه].
يعني: إنسان لو يمسك جمرة هكذا، ويظل قابضاً عليها بفمه إلى أن تخرج روحه خير له من أن ينطق بهذه الكلمة: ليت الله لم يفعل هذا: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:١٤٠]، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، فكل أفعال الله تعالى مبنية على الحكمة والعدل والفضل، فحينئذ لا يجوز لأحد قط أن يعترض على الله تعالى في أفعاله.