قال: [وعن ابن عباس قال: (الزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة بقدر)].
وبالتالي فجميع المعاصي تقع بقدر، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يحب الزنا، أو أن الزنا يقع في الكون رغماً عنه، أو أن جميع المعاصي في الكون تقع رغماً عن الله، فلو أراد السارق أن يسرق وما أراد الله له السرقة فهل يسرق؟ لا والله أبداً، ولو أن رجلاً أراد أن يسرق خزينة في محافظة المنصورة مثلاً، واتخذ الأسباب المعينة له على ذلك، وتهيأ وأخذ العدة والمطارق وغيرها ووضعها في حقيبة، وركب السيارة ونزل حتى صار عند باب الخزينة، لكن الله تعالى علم ذلك منه أزلاً فصرفه عن ذلك، وكتب أنه مصروف عن السرقة في اللوح المحفوظ، فهل يمكن أن تقع منه السرقة؟ وما الذي سوف يحصل؟ إنه سيرجع القهقرى، حتى وإن تمكن من سرقة الأموال فإنه سوف يدعها وينصرف؛ لأن الله قد كتب له هذه الخطوات فقط في طريق المعصية، لكن الله تعالى قدر له وعلم أزلاً أنه لن يأخذ مال غيره حتى وإن قطع بعض الأشياء إلا أنه سوف يتوقف عند البعض الآخر ويرجع، وربما يكون هذا باباً من أبواب التوبة.
وتعلمون المرأة التي كانت في أمس الحاجة إلى الدريهمات لكي تطعم أولادها أو تنفي عنها فقرها، فقد سلكت كل سبيل للحصول على ما تقتات به، وما وجدت إلا أن تطلب من ابن عم لها أو قريب لها، فخيرها بين أن يمنعها أو أن يعطيها على أن تمكنه من نفسها، ففعلت حتى جلس بين شعبها الأربع.
والواحد منا أيها الإخوة الكرام! إذا تصور هذا المنظر قال: لابد من وقوع الزنا، لكن هذه المرأة قالت له كلمة حولت مساره من شرير عاص لله عز وجل منتهك للحرمات إلى رجل طائع يخاف الله تعالى، قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرف عنها -وقد أعطاها الدراهم والدنانير- لما خالط قلبه بشاشة الإيمان، وترك المال مستغفراً وتائباً إلى الله عز وجل، فانظروا إلى هذا الرجل لم يكن بينه وبين المعصية إلا قاب قوسين أو أدنى، ثم انصرف عنها.
فهل تعتقدون أن ما حدث منه لم يكن يعلمه الله قبل خلق السموات والأرض، ولم يكتبه الله عز وجل قبل خلق السموات والأرض؟ بل قد علم الله تعالى ذلك وكتبه؛ إذ إن كل شيء يقع في هذا الكون من خير وشر إنما هو بقدر الله عز وجل، فالزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، أي: بعلم وكتابة، وأن الله تعالى علم ذلك وقدره وكتبه.
قال:[وعن عمرو بن محمد قال: جاء رجل إلى سالم بن عبد الله فقال: الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: قدره الله علي ويعذبني عليه؟ قال: فأخذ له سالم الحصباء].
وكان هذا منهج السلف، فقد كان إذا ذكر القدر أمسكوا، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وإذا ذكر النجوم أمسكوا كما جاء ذلك في الأثر، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يؤثرون أبداً الخوض في باب القدر؛ لأنهم يعلمون أن القدر هو سر الله تعالى في خلقه، فكانوا يمسكون إذا ذكر القدر، فهذا سالم بن عبد الله بن عمر يسأله رجل: الزنا بقدر؟ فيجيبه بـ (نعم)، فيعترض الرجل ويقول: إذاً فلم يعذبنا الله على أمر قدره علينا؟! فأخذ سالم حصيات من الأرض يريد أن يلقيها في وجهه؛ لأنه سوف يبدأ الخوض في باب عظيم من أبواب الإيمان؛ إذ إن الإيمان يدل على مكنون القلب وعلى الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب لا نقول فيه: لم كذا؟ وكيف يعذب الله الأموات في قبورهم؟! ولم يعذب الله الأموات في قبورهم؟ وكيف خلق الله الجنة؟ وكيف خلق النار؟ وكيف الصراط؟ وكيف مرور الناس على الصراط؟ وكيف وكيف وكيف؟ إن كل مسائل الغيب يحرم على المؤمن أن يقول فيها: لم؟ وكيف؟ لأن مسائل الإيمان في الغالب مسائل ابتلاء؛ لينظر الله تعالى هل يؤمن بها العبد أم لا؟ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:(ليس في السماء موضع قدم)، وفي رواية:(موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد أو قائم أو راكع)، فتصور هذا الأمر، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:(ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة)، فلا يأتي شخص يقول: نحن جالسون في مجلس علم، وأنا أريد أن أرى هذه السكينة، يا أخي! هل أنت محتاج لأن ترى السكينة؟ قال:(وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة)، فهل تعتقدون أن الملائكة معنا الآن، ويسمعوننا ويحضرون هذه المجالس؟ إن من لم يؤمن بذلك فقد رد على الله تعالى أمره، ورد على الله تعالى خبره، وكذلك رد على الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا لابد أن يراجع إيمانه، بل أن يراجع إسلامه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:(إن لله ملائكة سياحين في الأرض، حتى إذا مروا بحلق الذكر)، أي: بحلق العلم، (نادى بعضهم على بعض: ألا هلموا، فيجتمعون فيعلو بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا)، فتصور لو أن فوقنا ملائكة تحفنا بأجنحتها -نسأل الله الرحمة والرضوان- وفوقهم طبقة أخرى من الملائكة، ثم ثالثة، ث