[تحذير العتابي من الكلام والجدل وموقف المأمون من مناظرته مع بشر المريسي]
قال: [وعن أبي علي محمد بن سعيد بن الحسن قال: دخل العتابي على المأمون وعنده بشر المريسي، فقال المأمون: ناظر بشراً في الرأي، فقال العتابي: يا أمير المؤمنين! قبل المناظرة فإنه لا يحمد المرء في أول وهلة على صوابه، ولا يذم على خطئه؛ لأنه بين حالين من كلام قد هيأه أو حصر، ولكنه يبسط بالمؤانسة، ويبحث بالمثاقبة، فقال له: ناظر بشراً في الرأي -أي: أن المأمون مصرٌّ على أن العتابي يناظر بشراً في الرأي- فقال العتابي: يا أمير المؤمنين! إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق].
أي: أنهم لا يتكلمون بصراحة، وإنما يلفون ويدورون، وديننا سهل وليس بصعب، والدليل على ذلك: أن الواحد من البادية كان يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيجلس في المسجد، ويسمع النبي عليه الصلاة والسلام، وبعدما يخرج النبي صلى الله عليه وسلم يقوم وينطلق إلى باديته، فكل كلمة سمعها قد فهمها.
لكن الآن تأتي لواحد يدرس الناس مادة أصول الفقه، أو مادة أصول الحديث، أو مادة اللغة العربية، أو يدرسهم معنى حديث، أو معنى آية، لكنه رزق شيئاً من الكلام والفصاحة والبيان، أو القواعد الكلية في اللغة العربية، أو في الدين أو غير ذلك، فتجده يتلاعب بهذه الألفاظ، وبهذا التراث الكلامي الذي لديه، حتى إن السامع يضرب كفاً على كف -ولا أقول: إنه يضرب كفه بوجهه- لأنه يحاول جاهداً أن يفهم كلام المتكلم، لكنه دائماً يبوء بالفشل، فإن علم المتكلم أن المستمع لم يفهمه؛ ازداد إعجاباً وفرحة بنفسه؛ لأنه يقول كلاماً على أعلى وأرقى مستوى، لدرجة أن أحداً لم يفهمه!! وهذا هو الجهل بعينه؛ لأن العلم النافع ما سمي نافعاً إلا لأن صاحبه قد انتفع به، كما أن المستمع له قد انتفع به أيضاً، فإذا كان لا ينتفع به أحد، ولا حتى المتكلم؛ لأن الذي يتقعر في كلامه، ويأتي بجمل حشوية في أثناء كلامه، ذلك يدل على عدم الإخلاص، والمرء إذا لم يكن مخلصاً في قوله وعمله فلا بد أن تنزل من السماء عليه عقوبة تدمره، عقوبة في ولده، في ماله، في امرأته، في نفسه، في صحته، في علمه الذي بين جنبيه وغير ذلك، لكن يرد على وجهه فينسي أن هذه عقوبة، وربما يصاب بأزمة نفسية يبقى بقية حياته مريضاً منها، ولا يذكر أن هذه عقوبة من الله نزلت عليه بسبب تفريطه في الإخلاص الذي هو مأمور به قبل تعلم العلم.
وكم من إنسان لم يكن مخلصاً في طلبه للعلم، ولم يدعوه العلم لطلب الإخلاص؛ فباء أمره بالفشل، واستحب العلم لحصول أعراض الدنيا من مال وكرسي ومتاع وزينة وسيارات وأبهة ومنصب وغير ذلك؛ لأنه رضي من دينه وعمله أن يكتفي بكرسي يجلس عليه، أو بمال يحوزه، أو بأكلة شهية، أو بامرأة جميلة، أو غير ذلك من أعراض ومتاع الدنيا؛ فهذا حظه من العلم.
بخلاف ما لو قرأت في كتب السلف وسير أهل العلم، كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، فوالله لكأنك تقرأ في سيرة الصديق رضي الله عنه، ولو أنك قرأت في سيرة الشافعي لكأنك تقرأ في سيرة عمر رضي الله عنه، فهؤلاء أئمة وأعلام بقيت سيرتهم نيرة تنير الطريق للسالك إلى يوم القيامة، مع أنهم ماتوا، وقوم بيننا أحياء يمشون على الأرض، لكنهم كالبهائم، فهم في عداد الموتى وإن كانت أجسادهم كأجسام البغال والحمير؛ لأن المرء بدينه، وإن المرء بإخلاصه، لا بتقعره بالكلام لإثبات العلم، أو بالمفاخرة والمباهاة وغير ذلك.
قال العتابي: [يا أمير المؤمنين! إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق، واختلافاً في آرائهم، وأنا واصف لأمير المؤمنين ما أعتقده من ذلك، لعل صفتي تأتي على ما يحاول أمير المؤمنين].
أي: سأحكي لك حكايتي كلها، وبعد أن أحكيها لك ستعلم صفتي وصفة هذا الذي تدعوني إلى مناظرته، وبالتالي إذا عرفت صفتي وصفة هذا الذي تدعوني إليه؛ فأنت الذي ستقول: كف عن مناظرته.
قال: [إن أمر الديانة أمران -أي: أن أمر التدين لله على قسمان-: أحدهما: لا يرد إلا جحداً -لأنه قرآن- وهو الأصل المعروض عليه كل حجة].
أي: لا ينكر أحد منه آية إلا كفر؛ لأن الإنكار جحود.
قال: [وعلم كل حادث لا نرده أو لا يرد، من انتحله حجة عليه، فما وضحت فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها، أو سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا اختلاف فيها، أو إجماع من العلماء، أو مستنبط تعرف العقول عدله؛ لزمهم الديانة به].
هو الآن يتكلم على مصادر التلقي، فيقول: إن مصادر التلقي هي: الكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم، والقياس الصحيح.
قال: [ولو كان هذا الكلام متفقاً عليه، واجتمع الناس على تأويل آية على نحو معين؛ فلا يحل لأحد بعد هذا الإجماع أن يخالف هذا التأويل].
وهذا الكلام كما أجريناه في القرآن نجريه في الحديث، ونجريه في الإجماع الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه؛ لأن الإجماع كالنص، بل لا ينعقد الإجماع إلا ب