[الوجه الثاني مراء أصحاب الأهواء والبدع في القرآن الكريم]
الوجه الثاني: [وقد بقي المراء التي يحذره المؤمنون ويتوقاه العاقلون، وهو المراء الذي بين أصحاب الأهواء وأهل المذاهب المنحرفة والبدع الضالة، وهم الذين يخوضون في آيات الله، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، هذا التأويل لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم]، لكن أهل البدع والأهواء والمذاهب الضالة [يتأولونه بأهوائهم ويفسرونه بأهوائهم، ويحملونه على ما تحمله عقولهم، فيَضِلون بذلك ويُضِلُّون من اتبعهم عليه].
[قال الحسن: من فسر آية من القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ محي نور تلك الآية من قلبه].
انظر إلى هذا التهديد والوعيد! من فسر آية من القرآن برأيه فأصاب -أي: أصاب الحق- ليس له في ذلك أجر، وإن أخطأ فنور هذه الآية يمحى من قلبه، لماذا هذا كله؟ لأنه قال على الله تعالى بغير علم، وهذا حرام: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣]، وقال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦].
[وعن ابن الحنفية محمد بن علي قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله].
[وعن مجاهد قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام:٦٨] أي: يكذبون بآياتنا].
[وقال ابن سيرين: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام:٦٨].
قال الشيخ: المراء في القرآن والخصومة فيه، والتعاطي لتأويله بالآراء والأهواء لإقامة دولة البدع وابتغاء الفتنة بغير علم كفر وضلال.
نسأل الله العصمة من سيئ المقال].
[وقال عبد الله بن الزبير: لقيني ناس من أهل العراق].
ودائماً أهل العراق أهل فتن، وأيضاً أهل مصر.
قال: [لقيني ناس من أهل العراق فخاصموني في القرآن، فوالله ما استطعت بعض الرد عليهم، وهبت المراجعة]، أي: خفت أن يراجعوني في القرآن، [فشكوت ذلك إلى أبي الزبير]، يعني: شكا ذلك إلى والده، [فقال الزبير: إن القرآن قد قرأه كل قوم فتأولوه على أهوائهم، وأخطئوا مواضعه].
فالخوارج يقرءون الآية ويفسرونها على أهوائهم، والشيعة يقرءون نفس الآية ويفسرونها على أهوائهم وعلى النحو الذي يؤيد بدعتهم.
وقد ورط أهل العراق مرة ابن الجوزي في درس، وابن الجوزي كان واعظاً، وشأن الوعاظ في كل زمان ومكان أنهم لا يحبون أن يميلوا ميلة واحدة ولو عن أصحاب الباطل؛ حتى يكسبوا جمهوراً عظيماً.
فـ ابن الجوزي عليه رحمة الله ما كان يحب أن يتعرض لمثل هذه القضايا، فسئل ذات مرة: أيهما أفضل: عمر أم علي؟ فتصرف بذكاء وقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته.
وسكت، فالشيعة قالوا: إنه يقصد علياً؛ وذلك لأن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحت علي، والآخرون قالوا: إنما يقصد عمر؛ وذلك لأن حفصة ابنة عمر كانت تحت النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا أهل البدع يتأولون الكلام على ما يؤيد بدعتهم، وإذا كان الكلام محمولاً على الوجه الآخر فإنهم لا يحملونه إلا على وجه واحد، وهو ما يؤيد بدعتهم.
[قال الزبير: إن القرآن قد قرأه كل قوم فتأولوه على أهوائهم وأخطئوا مواضعه، فإن رجعوا إليك فخاصمهم بسنن أبي بكر وعمر، فإنهم لا يجحدون أنهما أعلم بالقرآن منهم.
قال عبد الله بن الزبير: فلما رجعوا فخاصمتهم بسنن أبي بكر وعمر، فوالله ما قاموا معي ولا قعدوا]؛ وذلك لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أهل البدع يجادلونكم بمتشابه القرآن فخذوهم بالسنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا؛ لماذا؟ لأنهم قالوا بالرأي.
ولذلك [قال ابن عباس: إياكم والرأي فإن الله عز وجل رد الرأي على الملائكة، وذلك أن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:٣٠] فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}