[تفسير الفطرة في هذا الحديث بما جاء في كتاب الله والأحاديث الأخرى من أخذ الميثاق في ابتداء الخلق]
قال: [فأما هذا الحديث فإن بيان وجهه في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند العلماء والعقلاء بيان لا يختل على من وهب الله له فهمه، وفتح أبصار قلبه؛ وذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢]].
يريد أن يقول: إن الفطرة في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هي المذكورة آية الميثاق: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))، فهو فسر الفطرة بالميثاق الذي ابتدأه الله تعالى فاطر السماوات والأرض، أي: مبتدئ السماوات والأرض، فقال: الفطرة هي الابتداء، أي: ابتدأه الله تعالى.
ففسر الفطرة بالابتداء، والابتداء هو الخلق، ولما خلقهم الله تعالى على هيئة الذر في ظهور آبائهم أخرجهم من ظهور آبائهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق أنه ربهم، ولا رب لهم إلا هو سبحانه وتعالى، وهو المستحق للإلهية؛ لأن الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت يستحق أن يعبد دون سواه، فلما أخذ الله تعالى عليهم العهد بذلك: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:١٧٢].
قال: [ثم جاءت الأحاديث بتفسير ذلك أن الله عز وجل أخذهم من صلب آدم كهيئة الذر، فأخذ عليهم العهد والميثاق بأنه ربهم، فأقروا له بذلك أجمعون، ثم ردهم في صلب آدم، ثم قال عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠]-أي: التي ابتدأ خلق الناس عليها- فكانت البداية التي ابتدأ الله عز وجل الخلق بها، ودعاهم إليها؛ وذلك أن بداية خلقهم الإقرار له بأنه ربهم، وهي الفطرة].
إذاً: فسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) بأنه الإقرار الأول الذي أخذه الله تعالى من ذرية آدم لما أخرجهم من صلب أبيهم آدم، قال: [والفطرة هاهنا ابتداء الخلق]، أي: أنه فسر الفطرة بابتداء الخلق وليس بالإسلام.
قال: [ولم يعن بالفطرة الإسلام وشرائعه وسننه وفرائضه، ألا تراه يقول: ((لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))، ومما يزيدك في بيان ذلك ووضوحه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:١] يعني: أنه بدأ خلقها، أي: بدأ خلق السماوات والأرض، فالفطرة بمعنى: الخلق والبداية، فقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: على تلك البداية التي ابتدأ الله عز وجل خلقه بها، وأخذ مواثيقهم عليها من الإقرار له بالربوبية، ثم يعرب عنه لسانه بما يلقنه أبواه من الشرائع والأديان؛ فيعرب بها وينسب إليها، ثم هو من بعد إعراب لسانه واعتقاده لدين آبائه؛ راجع إلى علم الله تعالى في العلم الأزلي الذي كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومن سبق له في أم الكتاب عنده أنه كان ممن سبقت له الرحمة؛ لم تضره أبوته].
فانظر إلى الحجج العقلية، فهو يقول: إذا كان الله تعالى علم أن هذا مرحوماً فلن تضره أبوة أبويه وإن كانا كافرين، ولو سبق في علم الله لعبده أنه معذب فلن تنفعه أبوة أبويه وإن كانا من أتقى أهل الأرض، وهذا كلام جميل.
قال: [ولا ما دعاه إليه وعلمه أبواه من دين اليهودية والنصرانية والمجوسية، فما أكثر من ولدته اليهود والنصارى والمجوس ونشأ فيهم ومعهم وعلى أديانهم وأقوالهم وأفعالهم، ثم راجع بدايته وما سبق له من الله ومن عنايته بهدايته، فحسن إسلامه، وظهر إيمانه، وشرح الله صدره بالإسلام، وطهر قلبه بالإيمان، فعاد بعد الذي كان عليه من طاعته لأبويه عاصياً، ومحبته لهما بغضاً، وسلمه لهما وذبه لهما حرباً، وعليهما عذاباً صباً، ولو كان الأمر على ما تأولته الزائغون أن كل مولود يولد على الفطرة -أي: على دين الإسلام وشرائعه- لكان من سبيل المولود من اليهود والنصارى إذا مات أبواه وهو طفل ألا يرثهما].
وهذه حجة عقلية، فهو يريد أن يقول: لو كانت الفطرة هنا بمعنى الإسلام؛ فإن كل أبناء المشركين إذا ماتوا تجرى عليهم أحكام الإسلام: من الغسل، والتكفين، والصلاة عليهم، والدفن في مقابر المسلمين، ويرث أباه، وأبوه يرث منه، وهذا الكلام معقول، والأوضح منه أمر المنافقين؛ إذ إن الله قد قطع بكفرهم؛ لأنهم كفار في الحقيقة، فقد أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ولكونهم أظهروا الإسلام جرت عليهم أحكام الإسلام في الدنيا، وهم عند الله كفار، وكذلك أطفال المشركين ما المانع أن يكونوا في حقيقة أمرهم مسلمين، وتجرى عليهم في الدنيا أحكام الكفار تبعاً لآبائهم؟ والنبي عليه الصلاة والسلام صلى على زعيم المنافقين وهو على يقين من ربه أنه منافق، وأنه كافر، ومع هذا