[حكم من قال: (لم خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيعصيه)]
قال: [فيصير القدري بين أمرين: إما أن يعترف لله عز وجل بقضائه وقدره، ويرى أنه جور من فعله -أي: يرى أن فعل الله تعالى فيه ظلم وتعد على العباد- وإما أن يرى أنه ممن ينزه الله عن الجور؛ فينفي عنه قضاءه وقدره -وكلاهما شر- فيجعل مع الله آلهة كثيرة يحولون بين الله وبين مشيئته، فبالفكر في هذا وشبهه، والتفكر فيه والبحث والتنقير عنه هلكت القدرية؛ حتى صاروا زنادقة وملاحدة ومجوساً، حيث قاسوا فعل الرب بأفعال العباد، وشبهوا الله تعالى بخلقه، ولم يعوا عنه ما خاطبهم به، حيث يقول تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]]، ولما كانت هذه الجزئية من الجزئيات العظيمة أراد ابن بطة أن يضرب مثلاً.
قال: [فمما لا يحل لأحد أن يتفكر فيه ولا يسأل عنه ولا يقول فيه: لم لا ينبغي لأحد أن يتفكر؟ لم خلق الله إبليس؟] وأنتم تعلمون أن كثيراً من الناس يسأل هذا السؤال.
قال: [لم خلق الله إبليس وهو قد علم قبل أن يخلقه أنه سيعصيه، وأنه سيكون عدواً له ولأوليائه؟ ولو كان هذا من فعل المخلوقين إذا علم أحدهم أنه إذا اشترى عبداً يكون عدواً له ولأوليائه ومضاداً له في محابه، وعاصياً له في أمره، ولو فعل ذلك لقال أولياؤه وأحباؤه: إن هذا خطأ وضعف رأي وفساد نظام الحكمة، فمن تفكر في نفسه وظن أن الله لم يصب في فعله حيث خلق إبليس فقد كفر].
يعني: لو أن واحداً قال: لم خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيعصيه وسيكون عدواً له ولأوليائه؟ وقاسوا ذلك على رجل عظيم أو ملك من ملوك الدنيا اشترى عبداً وهو يعلم أن هذا العبد سيئ الخلق وسيكون عدواً له ولبقية العبيد عنده.
قالوا: هذا الملك لابد أنه سيكون سفيهاً حينئذ، فقارنوا فعل الملك بفعل الله عز وجل.
قال الإمام: من قاس أفعال المخلوقين بأفعال الخالق فنتج عن ذلك السفه والغفلة فقد كفر، وهذا كلام في غاية الثبات؛ لأن الله تعالى واحد في أفعاله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] سبحانه وتعالى.
قال: [ومن قال: إن الله لم يعلم قبل أن يخلق إبليس أنه يخلق إبليس عدواً له ولأوليائه فقد كفر، ومن قال: إن الله لم يخلق إبليس أصلاً فقد كفر].
لأنه لابد أن يقول: إن مع الله آلهة أخرى خلقت إبليس، والله تعالى واحد في خلقه فهو الخالق أو يقول: إن إبليس خلق نفسه، وكل هذا كفر وضلال.
قال: [وهذا قول الزنادقة والملاحدة.
فالذي يلزم المسلمين من هذا أن يعلموا أن الله خلق إبليس وقد علم منه جميع أفعاله؛ ولذلك خلقه].
يعني: لما علم الله تعالى ما سيكون عليه إبليس من الفساد في الأرض وإفساد العباد على الله عز وجل خلقه.
قال: [ويعلم أن فعل الله ذلك عدل وصواب] يعني: لابد أن تعلم أن الله تعالى علم ماذا سيصنع به ومع هذا خلقه، وما خلقه الله تعالى إلا من باب الحكمة والعدل.
قال: [وأن الله تعالى في جميع أفعاله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣].
ومما يجب على العباد علمه وحرام عليهم أن يتفكروا فيه ويعارضوه في آرائهم، ويقيسوه بعقولهم وأفعالهم، لا ينبغي لأحد أن يتفكر: لم جعل الله لإبليس سلطاناً على عباده وهو عدوه وعدوهم مخالف له في دينه، ثم جعل له الخلد والبقاء في الدنيا إلى النفخة الأولى؟].
أي: لم جعل الله كل هذا السلطان لإبليس وأعوانه وهو قادر على ألا يجعل له ذلك؟ لو شاء الله تعالى أن يهلكه من ساعته لفعل؛ فلم لم يفعل؟ ولو كان هذا من فعل العباد لكان خطأً؛ لأن الملك إذا أخطأ عبد مرة أو اثنتين أو ثلاثة -وربما لا يتحمل خطأه من أول وهلة- لقتله ليستريح منه.
فمن قال: فلم لم يقتل الله تعالى إبليس ويريح منه العباد؟ فقد كفر؛ لأن هذا اعتراض على الله تعالى في أفعاله وفي عدله وحكمته.
قال: [ولو كان هذا من فعل العباد لكان خطأً، وكان يجب في أحكام العدل من العباد أن إذا كان لأحدهم عبد وهو عدو له ولأحبائه ومخالف لدينه ومضاد له في محبته أن يهلكه من ساعته، وإذا علم أنه يضل عبيده ويفسدهم؛ ففي حكم العقل والعدل من العبادات ألا يسلطه على شيء من الأشياء، ولا يجعل له سلطاناً ولا مقدرة، ولو سلطه عليهم كان ذلك من فعله عند الباقين من عباده ظلماً وجوراً؛ حيث سلط عليهم من يفسدهم عليه ويضادهم فيه وهو عالم بذلك من فعله] إلى آخر هذا الكلام.