والعذر في العزل يتحقق في الأمور التالية: إذا كانت الموطوءة في دار الحرب وتخشى على الولد الكفر، كما هو الحاصل في فلسطين، فلو أن فلسطينياً عزل عن امرأته مخافة أن يتأثر ولده بدين اليهود أو بالفساد فهذا عذر، كذلك: إذا كانت أمة ويخشى الرق على ولده؛ لأن الرق نقص وهو لا يريد النقص لولده، أيضاً: إذا كانت المرأة يمرضها الحمل أو يزيد في مرضها، كما لو قرر ذلك أكثر من طبيبة مسلمة حاذقة صاحبة دين وثقة، وبالتالي إذا غلب ذلك على الظن جاز للرجل أن يعزل عنها إذا كانت المرأة يمرضها حملها، أو أنها مريضة والحمل يزيد في مرضها، أو أن الحمل يؤخر برأها، وحينئذ فهذا عذر للعزل، لكن ليس على مذهب أبي حامد الغزالي رحمه الله، إذ إنه يقول: إذا خافت المرأة على جمالها فهذا عذر في العزل! وهذا كلام ما له أصل ولا يصح؛ لأن لكل امرأة أن تقول: أنا أخاف على جمالي، حتى الدميمة تقول: أنا أيضاً خائفة على جمالي! لكن الجمال مسألة نسبية، فهي دميمة عندك وليست دميمة عند غيرك، فإذا رأيت امرأة سوداء فستزهد فيها، لكن لا يزهد فيها غيرك بل يطلبها ويبتغيها، ولو نظرت إلى امرأة بيضاء اشتهيتها، لكن لو نظر لها رجل أسمر اللون لا يشتهيها.
إذاً: مسألة الجمال والحسن والوجاهة مسألة نسبية، فإذا كانت المرأة تريد العزل بعذر المحافظة على جمالها ورشاقتها فهذه مسألة نسبية.
وهذه المسائل كلها يا إخواني! تريد رجالاً أصحاب تقوى؛ لأن الكلام مكتوب في الورقة وبإمكان كل إنسان أن يقرأه، لكن الذي يطبقه على نفسه يحتاج إلى تقوى الله عز وجل، والعجب أنه في هذه الأيام كثير من المثقفين يقول: أنا أريد ولداً وبنتاً فقط! وكأنه يشترط على الله قبل أن يتزوج، ولذلك أنا أذكر قصة للعبرة: كان معنا في الإعدادية أستاذ لغة عربية، وكان على مشارف المعاش، وكان أول رجل رفع الراية في نصرة مذهب الغرب في تحديد النسل، وكان يحارب لأجل هذا الغرض في كل واد وميدان، وما كان يعجبه قط رفض المشايخ لهذه الدعوة الخبيثة، ثم أنجب هذا الرجل ولداً واحداً بإرادته، أي: أنه اتخذ الأسباب لمنع النسل بعد الحصول على الولد الأول، ورباه تربية حميدة، حتى أصبح مثالاً للأدب والأخلاق الحسنة، وهو أستاذ في كلية الآداب في جامعة عين شمس، لكن الرجل لما كبر ولده وذهب إلى جامعة السوربون ليحصل على الدكتوراه شعر بالوحدة بينه وبين امرأته، فلما أراد الولد كان الوقت قد فات، فنصحه الناس أن يتزوج امرأة أخرى، فهاجم هجوماً جديداً في قضية تعدد الزوجات، وما أن كبر وذهب عنه الناس وماتت امرأته ترك الرجل التدريس وأحيل على المعاش، فمكث في بيته بقية عمره وحيداً فريداً، قد كرهه أهل بلدته كلهم بسبب الحملات التي حملها عليهم من قبل، وبقي الرجل في بيته حتى جن وفقد عقله، وأنا أذكر لما كنت في الجامعة زرته؛ لأنه رجل صاحب فضل ومنة علي، فأخذت أذكره بما كان منه من حملات ضد النسل في ذلك الوقت، فكان الرجل يبكي بكاء شديداً، فبكينا لبكائه حزناً عليه وعلى ما وصل إليه حاله، وكان دائماً يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لتزوجت أربعاً من الزوجات.
وكان دائماً يدعو لنا بدعوة واحدة: أسأل الله تعالى ألا تروا ما قد رأيت، ولما كبرنا عرفنا الوحدة وكيف هي؟ وإن كنا لم نجربها، لكن الإنسان دائماً لا يستغني أبداً أن يجتمع بالناس، أما تعلمون أن الرجل إذا كبر في سنه وفارقته امرأته أو ماتت عنه يحب أن يتزوج امرأة أخرى ولو أكبر منه، لا لأجل اللذة والفراش، وإنما لأجل المؤانسة.
وهذا رجل قد هرم وماتت عنه امرأته منذ أقل من سنتين، وهو صاحب جاه ومال وأولاد أربعة، أطباء، والرجل احتال على أصدقاء أولاده هنا وهناك حتى رفعنا الأمر إلى أولاده وقلنا لهم: حقه الشرعي لا تمنعوه، فتفهموا أخيراً للأمر وأذنوا له بالزواج، والله يا إخواني! الرجل يتصل بي في أي وقت من الليل الساعة الواحدة الثانية الثالثة الرابعة قبل صلاة الفجر ويقول: والله يا شيخ! ما نمت، أنا سوف أجن، ويقول: كدت أفقد عقلي، أنا أريد امرأة تؤنس وحدتي، ولا تحصل هذه المرأة مني على شيء، لكني أريد أن تؤنس وحدتي فقط.
وكذلك المرأة أشد حاجة للرجل من الرجل إليها ولو من باب المؤانسة فحسب، وهذه سنة الله عز وجل لا يحل لأحد أن يمنع فيها، فإذا فسد الزمان وحرص الرجل ألا يكون له ولد مخافة أن يفسد مع فساد أهل الزمان فذلك له.
نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.