[الفرعيات لا يبدع فيها المخالف وإنما يؤخذ بالترجيح عند الاختلاف]
إن الخلاف الذي وقع بين السلف رضي الله عنهم فيما يتعلق بأول المخلوقات: هل هو القلم أو العرش؟ اتفقنا أنهم استبعدوا أن يكون العقل؛ لأن هذا الكلام مردود ومنكر قولاً واحداً، إذاً: لا يبقى عندنا خلاف إلا فيما يتعلق بالعرش والقلم، أيهما أول المخلوقات.
فقال بهذا بعض السلف وقال بذاك بعض السلف، وهنا لابد أن نعرج على أمر، وهو أن السلف إذا اختلفوا في مسألة -ولو كانت من مسائل الاعتقاد- فإن الأصل أنه لا يبدع المخالف.
وأنتم تعلمون أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا: هل رأى النبي محمد عليه الصلاة والسلام ربه في ليلة المعراج أو لا؟ وتعلمون أن السلف رضي الله عنهم اختلفوا في أفضلية عثمان على علي وفي أفضلية علي على عثمان، وهذه من مسائل الاعتقاد، ومع هذا لم يبدع أحد الفريقين صاحبه، لا الذين فضلوا علياً بدعوا من فضل عثمان، ولا العكس، ولم يبدع الذين قالوا بثبوت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج من قال غير ذلك ولا العكس، وهذه المسائل من مسائل الخلاف سماها العلماء الخلاف الفرعي في العقيدة، فهذه فرعية من فرعيات الاعتقاد، لا أصل من الأصول، أي: ليست متعلقة بالإيمان بالله، إذ إن الإيمان بالله أصل، والإيمان بالملائكة أصل، والكتب كذلك، والرسالات، والجنة والنار والصراط والجزاء، هذا كله أصول، أما الفرعيات فلا يبدع فيها المخالف.
لكن نشأ هذا الخلاف في السلف رضي الله عنهم، وكان لكل دليله، ونحن نعرف أن مسألة الرؤية هذا معه أدلة وهذا معه أدلة وإن كانت الأدلة مؤولة، لكن على أية حال وقع الخلاف، فينظر إذا كان الخلاف وقع في أصول الاعتقاد فلا يحتمل، بل يبدع المخالف ويضلل، وهذا بفضل الله لم يقع في سلفنا رضي الله عنهم، إنما وقع الخلاف في فرعيات مسائل في الاعتقاد، فهذا لا يبدع فيه المخالف.
عندما أقول لك: اعمل لي بحثاً فيما يتعلق بأول المخلوقات: هل هو القلم أم العرش؟ وائتني بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، ثم رجح أحد الفريقين، ما الذي ستفعله؟ ستتبع الكتاب والسنة وستأتي بأدلة القائلين بأن العرش أول المخلوقات، وأدلة القائلين بأن القلم أول المخلوقات، ومن السنة ومن أقوال الصحابة، والسلف عموماً رضي الله عنهم، وبعد أن تأتي بالأدلة ستأتي بكلام الشراح في هذا وذاك، وتأتي بكلام أهل التأويل الذين يجمعون بين النصوص.
وطريقة الجمع كما قلت لك: (وكان عرشه على الماء) منهم من يقول: وكان عرشه بعد خلق السماوات والأرض على الماء، وهذا تأويل، ومنهم من يقول: أول ما خلق الله القلم أي: من أول ما خلق الله القلم، ومنهم من يبقيه على ظاهره يقول: أول المخلوقات القلم بنص الحديث، وكان عرشه على الماء، قالوا: التقدير: وكان عرشه بعد خلق السماوات والأرض على الماء، فيقول: إن العرش مخلوق قبل السماوات والأرض، وفريق آخر يقول: لا.
كان العرش بظاهر الآية قبل خلق السماوات والأرض، وأول ما خلق الله تعالى ضمن ما خلق السماوات والأرض القلم، كل هذه الآراء ستجدها.
فإنك بعد أن تكون مشدوداً ومتعصباً جداً لمسألة أن القلم أول المخلوقات؛ تفاجأ بأن هناك رأياً آخر يقول: إن العرش أول المخلوقات وهذا كلام لا يمكن دفعه، وإذا كنت تقول: إن العرش أول المخلوقات تفاجأ بأن هناك رأياً آخر، وهو أن القلم أول المخلوقات، وكذلك لهم أدلتهم من الكتاب والسنة لا تستطيع ردها ولا صدها ولا تستطيع تأويلها، فإذا كنا نريد الترجيح فإن الترجيح أيها الإخوة! له طريقان: الطريق الأول: إثبات الدليل الذي يؤيد ما أنت عليه، والنظر في أدلة المخالف وتأويلها تأويلاً لا يتعارض مع ما رجحته أنت، فأنا عندما أقول: القلم أول المخلوقات بنص الحديث، فإذا بشخص آخر يقول: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:٧]، فإنه لابد أن أجد صرفة لهذه الآية؛ لأن هذه الآية ستقف في طريق مسألتي، وأنا قد وصلت إلى النتيجة أن القلم أول المخلوقات، فإن هذه الآية ستعترضني، فلابد أن أجد لها صرفة، فإذا لم أجد لها صرفة فأنا مهزوم.
والذي يقول: وكان عرشه على الماء العرش أول المخلوقات لابد أن يتصرف في أدلة من يقول بأن القلم أول المخلوقات، فإذا لم يتصرف فكذلك لا يستطيع الترجيح، فاعلم أن العلم بالمناقشة والنظر والاستدلال والتأويل، فلا يصح أن تقول: العرش هو أول المخلوقات وحسب، أعجبك هذا الأمر أم لم يعجبك، فهذا ليس كلام أهل علم، فلابد من البحث في مراجع كتب الاعتقاد.
ولكي تعرف كيفية الترجيح لابد أن تعرف كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للإمام الحازمي، فقد ذكر أن وجوه الترجيح اثنان وخمسون وجهاً، وعندها ستصل إلى كيفية الترجيح، وهذا الكلام موجود ومذكور في كتاب تأويل مختلف الحديث لـ ابن قتيبة، وتأويل مختلف الحديث للإمام الشافعي، وكتاب مشكل الآثار للإمام الطحاوي، وكل هذه الكتب كتب تأويل، وكذل