ثم بعد ذلك يذكر الإمام ابن بطة أقسام الاختلاف وحكمه، فيقول رحمه الله:[فأما الاختلاف فهو ينقسم على وجهين]، تعرض لمسألة الاختلاف وأقسامه حتى يبين لك أن الاختلاف نوعان، في أصول الدين، وفي فروعه، أما اختلاف أئمتنا الذي دخل عليك كشبهة فقلت لـ ابن بطة: لم تعيب يا ابن بطة على من تسميهم أهل الزيغ والأهواء لمجرد أنهم مخالفون لنا، مع أن الخلاف وقع في أئمتنا، فنحن نعيب عليهم ما وقعنا فيه، فـ ابن بطة يقول: لا، ليس هذا الكلام سليماً ولا صحيحاً، ومرد ذلك إلى معرفة نوع الاختلاف، وهو نوعان: اختلاف في العقائد والأصول، واختلاف في الفروع.
فأما الذي وقع فيه فقهاؤنا فهو الاختلاف في الفروع، وأما الذي وقع من أهل الزيغ والضلال فهو الاختلاف في الأصول، وإن اتفقا في مصطلح الاختلاف إلا أنه شتان ما بين الاختلاف الواقع بين فقهائنا في فروع الشريعة، وبين اختلاف فقهائنا وغيرهم من أهل الزيغ والضلال في أصول الشريعة وأصول الدين.
لكن أهل الزيغ لما أرادوا صرف القاعدة العامة عن فقهائها وعلمائها لم يذكروا هذه الأحكام، وإنما اكتفوا بما أسموه بالاختلاف، ونحن قد اختلفنا يا عامة الناس مع علمائكم، وهذا لا ينكر علينا؛ لأن فقهاءكم كذلك قد اختلفوا، فيلزمكم إذ تعيبوننا على هذا الخلاف أن تعيبوا أنفسكم، هكذا أراد أهل الزيغ أن يقولوا، وأن يلبسوا على عامة الناس فانتبهوا.
قال:[فأما الاختلاف فهو ينقسم على وجهين: أحدهما: اختلاف الإقرار به إيمان ورحمة وصواب، وهو الاختلاف المحمود الذي نطق به الكتاب، ومضت به السنة، ورضيت به الأمة، وذلك في الفروع والأحكام التي أصولها ترجع إلى الإجماع والائتلاف].
إذاً هذا هو الاختلاف المحمود الذي لا ينكر، وهو اختلاف علماء أهل السنة.
قال:[واختلاف هو كفر وفرقة وسخطة وعذاب، يئول بأهله إلى الشتات والتضاغن والتباين والعداوة واستحلال الدم والمال، وهو اختلاف أهل الزيغ في الأصول والاعتقاد والديانة.
فأما اختلاف أهل الزيغ فقد بينت لك كيف هو وفيما اختلفوا فيه، وأما اختلاف الشريعة الذي يئول بأهله إلى الإجماع والإلفة والتواصل والتراحم؛ فإن أهل الإثبات من أهل السنة يجمعون على الإقرار بالتوحيد، وبالرسالة، بأن الإيمان قول وعمل ونية، وبأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومجمعون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى أن الله خالق الخير والشر ومقدرهما، وعلى أن الله يرى في القيامة، وعلى أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان ببقاء الله، وأن الله على عرشه بائن من خلقه، وعلمه محيط بالأشياء، وأن الله قديم لا بداية له ولا نهاية ولا غاية].
أي: ولا حد، واسم القديم قال بعضهم: ثبت هذا في بعض النصوص، لكن ثبوت هذا الاسم محل نظر عند المحققين، مع أنه قد استخدمه بعض من أبناء المسلمين، ولما كانت أسماء الله تعالى توقيفية كان ينبغي الوقوف عند ما صح في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبإمكاننا أن نستخدم اسم الأول مكان القديم؛ لأنهم أرادوا بالقديم الأول، والأول ثابت بالتواتر في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلم ندع ما ثبت بالتواتر وعليه إجماع المسلمين، وندخل في اسم آخر هو محل نزاع بين علماء المسلمين؟! ولفظة (أول) أقوى في الدلالة من القديم؛ لأن القديم قبله أقدم، أما الأول فليس قبله شيء، وبالتالي فنكتفي بالوقوف عنده.
قال:[بصفاته التامة، لم يزل عالماً ناطقاً سميعاً بصيراً حياً حليماً، قد علم ما يكون قبل أن يكون، وأنه قدر المقادير قبل خلق الأشياء].