للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام الإمام النووي في المراد بالتقدير في قوله عليه السلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)]

لما ذكر الإمام النووي عليه رحمة الله هذه الأحاديث التي ذكرناها قال: المراد بالتقدير في قوله عليه الصلاة والسلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)، لا يفهم منه أنه مجبور على ذلك، إذ إن الجبرية من الفرق الضالة الهالكة.

وإنما معنى التقدير في قوله: (أتلومني على أمر قدره الله علي) أي: كتبه الله علي، إذاً: التقدير هنا بمعنى: الكتابة، بدليل أنه قال: أأنا أقدم أم الذكر؟ قال: الذكر، إذاً أنت قرأت في الذكر أنني سأفعل هذا قبل أن أخلق بأربعين عاماً.

قال: وفي صحف التوراة وألواحها، أي: كتبه علي قبل خلقي بأربعين سنة، وقد صرح بهذا في الرواية التي بعد هذه، فقال: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين سنة)، أي: أنه في التوراة التي نزلت على موسى أن آدم عليه السلام سيرتكب ما ارتكب قبل ذلك بأربعين سنة.

قال: (قال: أتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)، فهذه الرواية مصرحة ببيان المراد بالتقدير، وأنه الكتابة.

والكتابة مرتبة من مراتب القدر، وهي متعلقة بالمرتبة الأولى من جهة علم الله، أي: أن الله تعالى علم أزلاً ما يكون من العباد من خير وشر وصالح وطالح، فلما كان ذلك كتبه في اللوح المحفوظ.

ولا يجوز أن يراد به حقيقة القدر، فإن علم الله تعالى وما قدره على عباده وأراد من خلقه أزلي لا أول له؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن علم الله تعالى متعلق بخلقه قبل أن يخلقهم بأربعين سنة؛ لأن هذا القول يستلزم أن الله كان جاهلاً فعلم، وهذا كفر.

ولم يزل سبحانه مريداً لما أراده من خلقه من طاعة ومعصية وخير وشر.

قال: (فحج آدم موسى)، أي: غلبه بالحجة وظهر عليه بها، ومعنى كلام آدم: أنك يا موسى! تعلم أن هذا قد كتب وقدر علي قبل أن أخلق، فلابد من وقوعه، ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لم نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ ولأن اللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله تعالى على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجاً بالشرع لا بالعقل.

فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي، لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، كأن تجد شخصاً يشرب الخمر فتقول له: يا فلان! لماذا تعمل ذلك؟ فيقول: هذا مقدر علي! فيحتج بالقدر على المعصية، والمتفق عليه بين أهل السنة والجماعة أن القدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، كأن يمرض شخص فيقول له آخر: لماذا يا أخي! مرضت؟ فيقول له: هذا قدر، واحتج له بالقدر؛ لأن هذا المرض لا يملكه وليس سبباً فيه.