[باب النهي عن المراء في القرآن]
الباب الثاني: [باب النهي عن المراء في القرآن]، أي: في باب الخصومة والمماحلة.
[عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مراء في القرآن كفر)].
[وعن عبد الله بن عمرو قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوا المراء في القرآن.
فإن الأمم لم يلعنوا حتى اختلفوا في القرآن]، أي: في الكتاب الذي أنزل على نبيهم، [وإن مراء في القرآن كفر)].
[وعنه قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارءون في القرآن]، أي: يتجادلون في كتاب الله، [فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)]، أي: وما جهلتم منه فلا تسارعوا وتقولوا: هذا من المتشابه، بل قولوا: نحن لا نعلمه، فالذي تعلمه يقيناً وحقاً وصدقاً فقل به وأخبر به وعلم الناس، واعمل به أنت أولاً، والذي لم تبلغه العقول فينبغي أن تقول فيه: لا أعلمه، أو قل: الله أعلم.
[وعن أبي عمران الجوني قال: (كتب إلي عبد الله بن رباح: إن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]، أي: ذهب إليه في الهاجرة، [فقعدنا بالباب، فسمع رجلين اختلفا في آية من كتاب الله عز وجل، فارتفعت أصواتهما، فخرج صلى الله عليه وسلم من بيته مغضباً يُعرف الغضب في وجهه فقال: إنما هلك من كان قبلكم بالكتاب)] يعني: فعلتم مثلما فعل الأولون، كانوا يضربون كلام الله بعضه ببعض، ويضربون آيات الله بعضها ببعض، فكان ذلك سبباً في هلاكهم، فلا تفعلوا فعلهم.
[وعن أبي أمامة قال: (بينما نحن نتذاكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية)]، في المجلس مذاكرة، كل واحد يتبنى في مسألة ما رأياً معيناً، فيأتي ليثبت صحة قوله بآية من كتاب عز وجل، والثاني يريد أن يثبت كذلك أن رأيه أصوب وأصح وأتم من رأي صاحبه، فيأتي بآية من كتاب الله عز وجل، فكأن هذا يضرب بآيته الآية الأولى، وذاك يضرب بآيته الآية الثانية، فهذا سبب لتضارب الآيات بعضها ببعض، وهذا جرى على يد الملاحدة والجهال، فمن كان جاهلاً فليكل العلم إلى الله عز وجل، ومن كان جاحداً أو منافقاً أو مبغضاً لكلام الله عز وجل يريد أن يحرف الكلم عن مواضعه؛ فليعلم أن لله تعالى جنوداً: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١]، تدافع عن كلامه، وتدافع عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ينزع هذا بآية وهذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صب على وجهه الخل فقال: يا هؤلاء! لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه يوقع الشك في قلوبكم، فإنه لن تضل أمة إلا أوتوا الجدل)] يعني: أن الجدل علامة الضلال.
[وعن جندب بن عبد الله البجلي قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه)].
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) , وفي رواية: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)] أي: وإن أصاب.
وهذا من باب القول على الله تعالى بغير علم، ومن باب تأويل كلام الله عز وجل بغير علم حتى وإن أصاب الحق؛ وذلك لأنه يحكم على كل إنسان أن يتكلم وأن يتأول وأن يفسر كلام الله عز وجل بغير علم، فمن تكلم بالقرآن برأيه واجتهاده، وليس من أهل الاجتهاد، ولا من أهل النظر والدراسة والبحث؛ فإن هذا معتد متجرئ على كلام الله عز وجل، حتى وإن أصاب.
وإن ظن أن هذا ظاهر لكل أحد، وفسره بغير رجوعه لكلام أهل العلم، أو لسنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإن هذا مخطئ وإن أصاب المراد من الآية، أو من الحديث النبوي؛ وذلك لأنه لا يجوز له أن يتكلم في دين الله عز وجل إلا ببينة قوية، وعلم أكيد متين.
ألا ترون أن أحداً لا يجرؤ أن يصنع رسماً هندسياً لبناء عمارة، مع أن هذا أمر دنيوي لا يأثم فاعله، لكن تعارف الناس أن الذي يقوم بهذا العمل متخصص اسمه المهندس، كما لا يجرؤ أحد من عامة الناس وإن بلغ أعلى المراتب في الشهادات العلمية في الهندسة أو الكيمياء أو غير ذلك أن يدخل لإجراء عملية جراحية ليجري جراحة لإنسان، بل تراه يقول: ليس هذا عملي ولا تخصصي.
فإذا كان الناس يحترمون هذه التخصصات في حياتهم العامة وحياتهم الدنيوية، فما بال الجميع الآن يعتقد أنه قد بلغ مرحلة الاجتهاد، فتجد الغبي والأحمق والعالم والجاهل، والمتخصص وغير المتخصص، لا يبرح مجلسه إلا وقد أجاب في مسائل هو غير متخصص فيها؛ هل الأدب قد غاب عن كثير من الناس، أو عن عامة المسلمين؟ فلا يتكلم أح