[إرشاد عبد الله بن مسعود للناس في كيفية التصرف مع الفتنة]
قال: [وعن جعفر بن برقان قال: حدثني بعض أصحابنا أن رجلاً من حمير كان يتعلم القرآن عند عبد الله بن مسعود، فقال له نفر من قريش: لو أنك لم تعلم القرآن حتى تعرف؟] يعني: يقولون له: لماذا تدخل على عبد الله بن مسعود؟ قال لهم: لأجل أن أتعلم القرآن، قالوا له: تعال تعلم الكلام والفلسفة والجدل والمنطق قبل أن تتعلم القرآن، فإنك لو تعلمت الكلام فلك أن تتعلم بعده ما تشاء فجعلوا الكلام أصلاً والقرآن فرعاً، وهذا بلاء عظيم جداً، مثلما أننا الآن نمر بأزمات فكرية وفساد دعوي في قطاع كبير من أبناء الصحوة، كل يتبع هواه، ويتبع رأيه، ويعرض عن النصيحة.
قال: [فذكر ذلك الحميري لـ ابن مسعود كلام القوم؛ فقال: بلى! فتعلمه؛ فإنك اليوم في قوم كثير فقهاؤهم قليل خطباؤهم، كثير معطوهم قليل سؤّالهم، يحفظون العهود ولا يضيعون الحدود، والعمل فيه قائد للهوى، ويوشك أن يأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه، كثير سؤاله قليل معطوه، يحفظون الحروف ويضيعون الحدود، والهوى فيه قائد للعمل]، أرأيت؟ هذا كلام صادر من ابن مسعود كأنه كلام نبي.
قال الحميري: [وليأتين علينا زمان يكون فيه الهوى قائداً للعمل؟]، يعني: هل يعقل أن يأتي على الأمة يوم من الأيام يكون هواها هو القائد للعمل؟ قال: [قال ابن مسعود: نعم.
قال: فمتى ذلك الزمان؟ قال: إذا أميتت الصلاة، وشيد البنيان، وظهرت الأيمان، واستخف بالأمانة، وقبلت الرشوة؛ فحينئذ النجاة النجاة.
قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكف لسانك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك].
يعني: لو استطعت أن تكون خرقة ملاصقة لبيتك فافعل.
[قال: فإن لم أترك؟] اعتبر يا ابن مسعود! أنني جالس في البيت ودخلوا علي.
[قال: تسأل دينك ومالك، فاحرز دينك وابذل مالك].
يعني: إذا دخلوا عليك سيقولون لك: تعال.
شارك معنا في الفتنة أو أعطنا مالك، فيقول له: احرز دينك وادفع لهم مالك، فإذا كانت القضية قضية مال أو دين يحرز الدين ويبذل المال.
[قال: فإن لم أترك؟ أي: بعد أن أخذوا مالي كذلك لم يتركوني.
قال: تسأل دينك ودمك، فاحرز دينك وابذل دمك].
يعني: احفظ دينك ولا تشترك في الفتنة، وابذل لهم دمك إذا كانوا يريدون قتلك فدعهم وما يريدون.
[قال: قتلتني يا ابن مسعود!] يعني: وصلت معي إلى القتل.
[قال ابن مسعود: هو القتل أو النار].
أي: فماذا تختار، فـ ابن مسعود يقول: إن كلامي مبني على أمرين: إما أن تُقتل؛ فتكون من أصحاب الجنة.
وإما أن تَقتُل؛ فتكون من أصحاب النار.
[قال: هو القتل أو النار.
قال: فمن خير الناس في ذلك الزمان؟ قال: غني مستخفي].
ومعناه: أن يكون حلس بيته.
[قال: فمن شر الناس في ذلك الزمان؟ قال: الراكب الموضع المستقع]، يعني: الشديد البائن على الفتن.
قال: [وعن عبد الله بن رواع قال: ذكرت الفتنة عند عبد الله بن مسعود.
قال: أما أنا فإن وقعت دخلت بيتي، فإذا دُخل علي كنت كالبعير الثقال الذي لا ينبعث إلا كارهاً، ولا يمشي إلا كارهاً].
قوله: (كالبعير الثقال) يعني: بعير كبير في السن، إذا جلس وبرك لا يقوم إلا ثقيلاً، وهذا معنى قوله: (لا ينبعث إلا كارهاً) تضربه ليقوم، وتستخدم معه كل الطرق كي يقف في مكانه، لكن لا يقوم إلا كارهاً، ولا يمشي إلا كارهاً لكبر سنه، هكذا يقول ابن مسعود: أنا في الفتنة أدخل بيتي، فإذا دُخل علي وحملوني على القيام؛ أقوم كما يقوم البعير الثقال، العليل، الكبير في السن، الذي لا يقوم لأول وهلة، ولا يقوم إلا كارهاً.
قال: [وعن ابن رواع قال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نرى أموراً نخاف أن تكون لنا فتناً، فإن كان ذلك فكيف نصنع؟ فقال: تدخل دارك، قال: فإن دُخل علي داري؟ قال: تدخل بيتك، قال: فإن دُخل علي بيتي؟ قال: لا أحسبه إلا قال: ادخل مخدعك -أي: المكان الذي تنام فيه- فإن دخل عليك فكن كالجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرهاً، ولا يمشي إلا كرهاً.
وعن أبي الدرداء قال: نعم صومعة الرجل بيته]، أي: أحسن مكان للرجل عند الفتنة بيته، [يكف فيها بصره ولسانه، وإياكم والسوق؛ فإنها تلغي وتلهي].