للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعقيب ابن بطة على آثار السلف المتعلقة بترك السؤال عما لا يعني]

قال: [فالعجب يا إخواني رحمكم الله! لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تلج محاضرهم في أودية الردى، تركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به أنفسهم، وفرغوا له آراءهم وأوقاتهم، وجعلوه ديناً يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، أما علم الزائغون أن مفاتيح أبواب الكفر، ومعالم أسباب الشرك هو التكلف لما لم تحط الخلائق علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله، ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير، والأحمق الصغير، بقوته الضعيفة وعقله القصير أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب التي أرادها لنفسه سبحانه وتعالى، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلا بما شاء، ولا يعلمون منها إلا ما يريد، فكل ما لم ينزل الوحي بذكره، ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله، ومخزون غيبه، وخفي أقداره، فليس للعباد أن يتكلفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحملوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره، وقّلب فيه فكره، أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور؛ ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم الحجة الواضحة، والجادة السابلة، والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما ينهى عنه؛ يقع -والله- في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده، والعجب كل العجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟! أما تعلمون أن الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق؟ فسبحان الله أنى تؤفكون! قال ابن الصواف: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: لو كلف الله هؤلاء ما كلفوه أنفسهم من البحث والتنقير؛ لكان من أعظم ما افترضه عليهم.

قال الشيخ: فالزموا رحمكم الله! الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، والمنهاج الأعظم من معالم دينكم، وشرائع توحيدكم، التي اجتمع عليها المختلفون، واعتدل عليها المعترفون، كما قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:١٥٣].