[شرح رواية عوف بن مالك الأشجعي لحديث افتراق الأمة]
قال: [وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال)].
وقوله: (قوم يقيسون الأمور برأيهم) يدل على مخالفة هذه الفرقة الضالة لفرقة الحق الناجية في أصول الدين لا في فروعه.
وهذه الفرق تخالف في الحلال والحرام، فتجعل الحرام حلالاً، وتجعل الحلال حراماً.
والتفرق لا بد أنه واقع في الأمة، ولا حاجة إلى إثبات ذلك من قبل النقل؛ لأن النقل ثابت لا محالة بطرق متعددة كثيرة، والواقع يقول: إن التفرق قد حصل ووقع بالفعل، فلو لم يرد نص بإثبات وقوع التفرق في الأمة لآمنا بوقوع التفرق؛ لأنه قد وقع في المجتمع.
فإذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بوقوع التفرق في الأمة فنقول: إن هذا من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر عن أمر غيبي سيكون فكان، وهذا يدل على أن ذلك من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام.
الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار)، والكفر لا يطلق على فرقة بأكملها، وإنما يغلب الكفر البواح على بعض الفرق، ونحن نحجم عن إطلاق لفظ الكفر على بعض الفرق، ولكن في الغالب غلاة الفرق كفار مارقون عن دائرة الإسلام، وأما عامة الفرق فإنه لا يحكم عليهم بالكفر حتى تظهر لهم الحجج والبينات.
والإمام الذهبي عليه رحمة الله يقول: والحمد لله أن عصمنا من هؤلاء وهؤلاء، وكنا في زمان غير زمانهم، يقصد زمن علي ومعاوية.
يقول: فما ذنب من نزل بالشام طفلاً رضيعاً على حب معاوية والمغالاة فيه، وذم علي رضي الله عنه، وما ذنب من نزل بالكوفة والبصرة طفلاً رضيعاً على حب علي رضي الله عنه والمغالاة فيه، وعلى ذم معاوية رضي الله عنه، أي: أنهم كالغنم السائمة أينما قيدت انقادت، لا علم لهم ولا فقه، وليس لهم عقل يميزون به بين الحق والباطل.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار) يقضي بأن جميع هذه الفرق في النار، ولا يلزم من دخولها النار الخلود فيها، إلا إذا كانوا قد مرقوا وخرجوا عن دائرة الإسلام فإنهم يخلدون، وأما غيرهم فإن دخلوها -وهم لا محالة داخلوها؛ لخبره عليه الصلاة والسلام- فلا يلزم من دخولهم الخلود، وإن جاء في بعض الروايات أنهم يخلَّدون في نار جهنم؛ فإن الخلود في لغة العرب محمول على المكث الطويل، لا دخولاً أبدياً سرمدياً.
وقوله: (كلها في النار) يلزم منه التفريق بين من كان كافراً وبين من كان عاصياً من أصحاب هذه الفرق، وكلهم يدخلون النار، ثم منهم من يخرج منها بعد أن يخلد فيها حيناً من الزمان، ومنهم من يمكث فيها أبداً، على حسب ما إذا كان قد كفر ببدعته أو لم يكفر ببدعته.
الثالثة: أن الفرقة لا يمكن أن تطلق على كل مبتدع، سواء كان واحداً أو جماعة أو طائفة من الناس، إلا إذا خالفت في الأصول والقواعد والكليات العامة للدين الإسلامي.
يعني: إذا خالف إنسان في فرع من فروع الشريعة فلا يقال: هو خارجي، أو شيعي، أو قدري، أو مرجئي، أو أشعري، ولا يقال ذلك إلا إذا خالف في أصل من أصول الشريعة، وكلية من كلياتها؛ فصارت هذه المخالفة علامة عليه وعلى منهجه وفكره، فهنا يستحق أن يلحق بإحدى هذه الفرق التي انتهج مخالفتها في هذه الكليات والقواعد العامة.
فإذا وافق شخص القدرية في بعض الفرعيات فإنه لا يكون قدرياً، وأما لو وافقها في الأصول العامة والكليات العظمى التي خالفت فيها هذه الفرقة أهل السنة والجماعة؛ فإنه يكون قدرياً، فبناء على مخالفتهم في هذه القواعد العامة والأصول الكلية استحقوا أن يكونوا فرقة ضالة، ولو وافقهم أحد في هذه الكليات والقواعد العامة يكون منهم.
إذاً: ليس كل من أحدث في الدين أو ابتدع بدعة في فرعية من الفرعيات يسمى فرقة، وإنما يعزر لأجل مخالفته أو يؤدب، وأما إلحاقه بالفرقة فلا.