[وجود الإشفاق في قلوب المؤمنين حملهم على الاستثناء في كلامهم]
قال: [فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق لزموا الاستثناء في كلامهم، وفي مستقبل أعمالهم، فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله].
وهذه المشيئة في الإيمان متعلقة بكماله وتمامه، وهذا الكمال لا يتحقق للعبد إلا بالعمل، إذاً الاستثناء في الإيمان مرده إلى عدم التزكية على الله تعالى في تحقق كمال الإيمان وتمامه.
فحين أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا يعني أنني قد عملت العمل، لكني لا أدري أقبله الله عز وجل مني أم لا؟ كما أنني لا أدري هل هذا العمل في قمة الكمال والتمام أو في وسطه أو في أول مراحله؟ إذاً إذا كان الكلام موجهاً إلى أصل الإيمان فنعم أنا مؤمن؛ لأنني آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا أكفر بشيء من ذلك، بل أعادي من يعادي ذلك، وأحب من يحب ذلك، وأنا موقن تمام اليقين من نفسي بما أقول؛ لأن هذا هو الأصل الذي لا ينزل إلا إلى الكفر البواح.
وأما إذا كان السؤال متوجهاً إلى كمال الإيمان وتمامه فأنا لا أعرفها؛ لأن ذلك لا يكون إلا بالعمل، وأنا قد عملت، لكني لا أدري أقبل مني أم لا؟ وإذا قبل هل قبل كله أم بعضه؟ لأنه ربما يصلي المرء الصلاة فيعجب بصلاته، وقد أداها كاملة بقيامها وركوعها وسجودها وخشوعها، وربما ظن أن هذا هو عين المراد من تشريع الصلاة، لكن لو نظر المرء إلى صلاته وإلى صلاة أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي فهل يستويان؟ بل لو نظر المرء بين عبادته وعبادة من سلفه من سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم، إذ لا يمكن أبداً أن يزعم المرء بأن صلاته كصلاة أحمد بن حنبل، ولا أن صيامه كصيام أحمد بن حنبل، نعم، نصوم لأننا نؤمن بأن الله تعالى فرض علينا الصيام، لكن في هذه العبادة من لغو وغيبة ونميمة الشيء الكثير، وبالتالي فلا يمكن أن يكون صيامي كصيام أحمد بن حنبل، وإن صدق على كل واحد منا أنه قد صام رمضان، لكن هيهات أن يكون عملي كعمل أحمد، أو تكون عبادتي كعبادة أحمد رحمه الله تعالى.
ولذلك نحن نقول: المرء يعمل، لكن هل العمل الذي أتى به العبد قد توفرت فيه قمة المطلوب والمراد من هذا العمل؟ لا يستطيع المرء أن يزعم أنه صلى صلاة ما بعدها صلاة، ولا صام صياماً ما بعده صوم، ولا حج حجاً ما بعده حج، ولذلك المرء يقول: أنا عملت، ومع عملي كنت مقصراً، وحجم العمل أين يكون في الميزان؟ هذا أمر لا يعرفه العبد، وحجم التقصير في ميزان العمل أين يكون؟ هذا أمر لا يعلمه كذلك إلا الله عز وجل.
فإذا كانت طاعتي من جهة الكمال والتمام فإنه لا يعلمها يقيناً إلا الله، وتقصيري في جنب الله عز وجل لا يعلمه يقيناً إلا الله عز وجل.
إذاً: فحينئذ ينبغي الاستثناء في الإيمان إذا كان المراد منه الكمال والتمام، وأن المرء إذا قال: أنا مؤمن جزماً، وانصرفت نيته إلى كمال الإيمان وتمامه، فإنه قد زكى نفسه، والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:٣٢].
قال الشيخ: [فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق لزموا الاستثناء في كلامهم، وفي مستقبل أعمالهم، فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، لا على جهة الشك، ونعوذ بالله من الشك في الإيمان؛ لأن الإيمان إقرار لله بربوبيته، وخضوع له في العبودية، وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى].
وكما نقول وقلناه مراراً: الإيمان ينقسم إلى أصل وفرع، والإيمان كالشجرة لها أصل ثابت وفروع تتفرع في السماء، فإذا كان الاستثناء في أصل الإيمان، فهذا خلع له من جذوره، وإذا كان الاستثناء في هذه الفروع المتعلقة بالعمل، فهذا جائز أو واجب في نفسه.
قال: [فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة].
أي: لو أنه قال: أنا مؤمن بالملائكة، لكن لا أعلم هل جبريل من الملائكة أم لا؟ فهذا شك، وآخر يقول: أنا مؤمن بأن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، لكني لا أدري أهذه الكعبة في مكة أم في اليمن أم في الهند؟ فإنه يكفر بذلك، إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام، أي: لا يعرف عن الإسلام ولا عن ثوابته شيئاً، فحينئذ يُعلَّم ويُعرَّف، فإن أنكر وأصر كفر.