للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواضع احتج فيها المشركون بالقدر وإنكار الله عز وجل عليهم في ذلك]

وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم: أن هؤلاء القدرية أو هؤلاء الملاحدة كـ ابن سينا وغيره حجتهم بلا شك إنما هي حجة المشركين أعداء الرسل الذين قالوا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:١٤٨]، إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:٣٥] أي: أن هذا شرك وقع بإرادة الله تعالى، وأن الله تعالى يحب أن نشرك، وهذا كلام باطل، وقال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:٣٥]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:٤٧]، أليس الله قادراً على أن يطعم الفقراء والمساكين وابن السبيل؟ بلى، فنحن لن نطعمهم ما دام هو قادراً على أن يطعمهم، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:٢٠]، فهذه أربع مواضع حكي فيها الاحتجاج بالقدر من أعدائه، وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الأحقر إبليس، حيث احتج على الله تعالى بقضائه فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:٣٩]، أي: أنت الذي أغويتني.

فإن قيل: قد علم بالنصوص والمعقول -هذا الكلام مهم جداً- صحة قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، وفعلاً صحيح، أليس الشرك وقع في الكون بإرادة الله تعالى الكونية القدرية؟ بلى، إذاً الفخ الذي وقع فيه أهل البدع أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية، إذ إن الإرادة الشرعية الدينية مبناها على المحبة والرضا والأمر، أي: أمر الله تعالى، والإرادة الكونية القدرية لا يلزم فيها المحبة والرضا، إذ منها ما هو محبوب إلى الله، ومنها ما هو مبغض كالمعاصي والذنوب، وكل يقع بإذن الله تعالى وقدره.

فإن قيل: قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:١٤٨]، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل:٣٥]، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:٢٠]، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:١١٢]-وهذا على الوجه الأقرب- لكن هم فعلوه، إذاً شاء الله لهم أن يفعلوه، لكنها مشيئة كونية قدرية، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:١٣]، إذاً: الله تعالى هو الذي شاء غوايتهم وإضلالهم، قال: فكيف أكذبهم، ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الكذب فيما هم فيه صادقون، وأهل السنة والجماعة جميعاً يقولون: لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر، ولا عصاه أحد من خلقه، فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون؟ وهذا السؤال مهم جداً.

قيل: أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين، وأفجر الفاجرين، ولم ينكر عليهم صدقاً ولا حقاً، نعم الشرك وقع منهم بمشيئة الله، فلم أنكر الله تعالى عليهم ذلك؟ قال: بل أنكر عليهم أبطل الباطل، فإنهم لم يذكروا ما ذكروه -أي: لم يحتجوا بالقدر على معاصيهم إثباتاً لقدرة الله تعالى وربوبيته ووحدانيته وافتقاراً إليه وتوكلاً عليه واستعانة به لأمره، ولو قالوا كذلك لكانوا مصيبين، أي: هم لم يحتجوا بالقدر على المعصية، أو بالمشيئة على الشرك الذي وقعوا فيه من باب الذل والافتقار والخضوع لله تعالى، وإثبات أنه لا يكون شيئاً في الكون إلا بمشيئته وإرادته، وإنما قالوا معارضين لشرعه ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر، وأيضاً فإنهم احتجوا بمشيئته العامة وقدره على محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه، فجمعوا بين أنواع من الضلال، معارضة الأمر بالقدر ودفعه به، والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم، أي: أنهم قالوا: لو كان الله لا يحب الشرك لم يكن يجعلنا مشركين، قال: ويرضاه حيث شاءه وقضاه -أي: لكونه شاءه وقضاه وقدره وأذن في خلقه وإيجاده، إذاً هو يحبه، هكذا قالوا- وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.