ولذلك أيها الإخوة! كثير من البلايا تنزل بالعبد فيراها محنة، وهي في حقيقتها منحة من الله عز وجل، فتكون في هذه البلايا إفاقة ورجوع وإنابة إلى الله عز وجل.
والمصائب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:(الخير في يديك، والشر ليس إليك)، أي: أن الشر المحض الذي لا مصلحة فيه ليس من أفعال الله عز وجل، وإنما الشر الذي يراه الناس شراً وهو فيه خير، فهذا من أفعال الله عز وجل، أي: من أفعال الله التي أذن في خلقها وإيجادها، فلو أن إنساناً قتل آخر، فهذا القتل يراه جميع الناس شراً محضاً، لكن لو أن القاتل أقيم عليه الحد على الهواء مباشرة، ورآه العالم، وقيل: فلان هذا قتل فلاناً، وأولياء القتيل يطالبون بالقصاص، وهذا هو القصاص، ويضرب عنقه ويقتل كما قتل، لفكر كل سفاح أو مصاص للدماء أو قاتل مليون مرة في العالم كله قبل أن يقتل أنه ممكن في يوم من الأيام أن يعرض هذا المعرض ويشهده الناس في هذا المشهد، وبالتالي تقل الجريمة أو تنعدم.
ولذا لو أردنا أن نعد الحدود التي وقعت في زمن النبوة فلن نستطيع أن نعدها على أصابع اليد الواحدة، فكم امرأة أقيم عليها الحد؟ أو كم شخص أقيم عليه الحد بالزنا؟ قلة قليلة جداً، اثنان أو ثلاثة؛ المرأة الغامدية، وماعز الأسلمي، والمرأة التي وقع عليها العسيف الأجير، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:(يا عبد الله بن أنيس! اذهب إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فهؤلاء ثلاثة قتلوا أو رجموا في الزنا، وهذا الأجير العسيف أقيم عليه حد الجلد؛ لأنه لم يكن محصناً، وقد وردت السنة بهذا.
أما القتل فقلة قليلة جداً، بل أقل من ذلك، وكذلك شرب الخمر قلة قليلة، مع أن الصحابة رضي الله عنهم ما أتى إليهم النبي إلا وهم يرزحون تحت نير الخمر، لكن لما نزلت آيات التحريم الصريحة سالت أودية المدينة بقدور الخمر، لكن قد يقول قائل: أنا أشرب سجائر ولا أستطيع تركها، أشربها وعمري سبع سنوات، وأنا الآن في ثلاث وخمسين سنة، وماذا يعني ذلك؟ ألا توجد عزيمة وإرادة؟! ألا تخاف من الله يا أخي؟! ثم أيها أعظم: الخمر أم السجائر؟ إن الصحابة رضي الله عنهم كان شرابهم الخمر، لكن عند أن نزل التحريم استجابوا لله تبارك وتعالى، وانتهى الكل عن شرب الخمر، مع أن كل واحد منهم كان عنده قدور من الخمر، ومع ذلك أخذها وصبها في سكك المدينة، حتى أصحبت الشوارع كلها مبتلة هنا وهناك؛ لأنهم يعلمون قدر الله عز وجل، وعظم الأمر الموجه إليهم من السماء، ويعلمون من الإله الحق الذي يعبدونه؟ إنه صاحب الأمر والنهي، ولو أمر الله تعالى الصحابة أن يخرجوا من آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم والله لخرجوا وما توقفوا، بل وقد خرجوا، فهناك حالات خروج، وأنتم تعلمون أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن اسلول خرج من أبيه، وهو الذي طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل أباه المنافق الذي قال:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}[المنافقون:٨]، فوقف عبد الله لأبيه على مشارف المدينة، وقال: أأنت الذي قلت: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟ ثم قال له: والله إنك الذليل ورسول الله هو العزيز، ولد يكلم أباه بهذا الخطاب؛ لأنه قد خرج منه وباعه لله عز وجل:(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، هذا هو الإيمان الحق.
[قال الشيخ: فقد علم الله عز وجل المعصية من آدم قبل أن يخلقه، ونهاه عن أكل الشجرة، وقد علم أنه سيأكلها، وخلق إبليس لمعصيته ولمخالفته فيما أمره به من السجود لآدم وأمره بالسجود، وقد علم أنه لا يسجد، فكان ما علم ولم يكن ما أمر، وكذلك خلق فرعون وهو يعلم أنه يدعي الربوبية ويفسد في البلاد ويهلك العباد، وأرسل إليه موسى يأمره بالتوحيد لله والإقرار له بالعبودية، وهو يعلم أنه لا يقبل، فحال علمه فيه دون أمره].
أي: فنفذ في فرعون علم الله ولم ينفذ فيه أمره.
قال: [وعن مجاهد في قول الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:٣٠] قال: علم من إبليس المعصية، وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها]، أي: الطاعة بعد التوبة.