[آثار في خوف السلف من ذهاب إيمانهم وخوفهم النفاق على من أمن ذلك على نفسه]
قال: [وعن أبي إدريس الخولاني قال: ما على ظهرها من بشر لا يخاف على إيمانه إلا ذهب].
وكأنه أراد أن يقول: ليس من أحد إلا ويجب عليه أن يحذر فوات إيمانه، وأن من أمن فوات الإيمان فلا بد أن يفوته حقيقة، إذ المرء إنما يعمل على تحصيل الإيمان وزيادته وكماله وتمامه، أما من أهمل إيمانه فهو كمن أهمل في زرعه أو في صناعته أو حرفته، فلا بد أنها إلى زوال، والإيمان من باب أولى.
إذ إن الإيمان كالشجرة التي تنبت في القلب، والمعلوم أن الشجرة ما لم تحطها برعاية ولطف لا بد أنها إلى زوال، وكذلك الإيمان ينبغي أن يراعيه صاحبه في قلبه.
قال: [وعن الحسن البصري قال: والله ما مضى من مضى، ولا بقي من بقي إلا يخاف النفاق].
حتى المبشرون بالجنة كانوا يخافون على أنفسهم من النفاق، فهذا عمر رضي الله عنه المبشر بالجنة يلقى حذيفة، وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر حذيفة بأعلام وأعيان وأسماء المنافقين، فيقول له: أنشدك الله يا حذيفة! أعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟! عمر يخاف على نفسه من النفاق، فمن باب أولى أن يخاف أحدنا من ذلك، أو أن يقف الواحد منا مع نفسه وقفة جادة لمعرفة ما إذا كان منافقاً أو فيه شعبة أو خصلة من خصال النفاق، فيراجع نفسه ويتخلص منها، ويعمل على كمال وتمام وزيادة الإيمان في قلبه بإتيان الطاعات واجتناب المنهيات.
فقال حذيفة لـ عمر رضي الله عنهما: لا يا عمر! ولا أزكي أحداً بعدك، أي: لم يذكرك النبي عليه الصلاة والسلام في المنافقين، ولكني أرجوك ألا تفتح هذا الباب حتى لا يسألني أحد غيرك فيكون منهم، فاضطر اضطراراً إلى إخباره بأنه من المنافقين، فتكون الفتنة بعد ذلك بيني وبين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [وما أمنه إلا منافق].
أي: ما أمن النفاق على إيمانه إلا إنسان قد استهتر بهذا الإيمان.
وقد ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله.
وهذا يدل على وجود الإيمان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو كذلك حقاً، ولذلك قال غير واحد: ما سبق أبو بكر الأمة بكثير صلاة ولا صيام، وإنما سبقها بشيء وقر في قلبه، ألا وهو الإيمان.
قال: [وقال طريف بن شهاب: قلت للحسن البصري: إن أقواماً يزعمون ألا نفاق]، أي: أنه ليس هناك شيء اسمه نفاق، قال: [ولا يخافون النفاق! قال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهباً].
أي: يرد عليه فيثبت النفاق، بدليل أن الحسن يتمنى لو أنه أخبر أنه ليس فيه شعبة من النفاق، وأن ذلك أحب إليه من أن تنبت الأرض ذهباً، فيقول الحسن: فيشتري الخبر بطلاع الأرض كلها ذهباً، على أن يخبر أنه ليس من المنافقين، أو أنه ليس على شعبة من النفاق.
قال: [وعن الحارث بن معاوية قال: إني لجالس في حلقة وفيها أبو الدرداء وهو يومئذ يحذرنا الدجال].
وكما تعلمون أن الدجال أعظم فتنة إلى قيام الساعة، وما من نبي إلا حذر أمته الدجال، فـ أبو الدرداء رضي الله عنه في حلقته يحذر الأمة الدجال.
قال: [فقال له الحارث بن معاوية: والله لغير الدجال أخوف على نفسي من الدجال]، أي: أنا أخاف على نفسي شيئاً هو أعظم من الدجال.
[فقال أبو الدرداء: وما الذي أخوف في نفسك من الدجال؟ قلت: إني أخاف أن يسلب مني إيماني ولا أدري].
أي: أخاف أن يذهب إيماني دون أن أدري.
[قال: لله أمك يا ابن الكندية!] أي: كأنك أتيت بشيء عظيم حقاً، وجدير بالاهتمام، فقال: [لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس مائة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس خمسين يتخوفون مثل الذي تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس عشرة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس ثلاثة يتخوفون ما تتخوف؟ والله ما أمن رجل قط أن يسلب إيمانه إلا سلبه، وما سلبه فوجد فقده].
أي: إذا سلب الإيمان فإنه يصعب جداً أن يعود إلى صاحبه مرة أخرى، وكأن أبا الدرداء أقر الحارث بن معاوية على أن رعاية الإيمان أعظم بكثير جداً من الانشغال بفتنة المسيح الدجال.
قال: [وعن أم الدرداء قالت: كان أبو الدرداء كثيراً ما يقول: إذا هلك الرجل على الحال الصالحة هنيئاً له، ليت أني بدله]! أي: إذا مات المرء على حال صالحة مرضية فهنيئاً له.
[فقالت أم الدرداء -وهي ا