للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة]

لكن السؤال هنا: هل يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية؟ فلو أن واحداً زنا، ثم سئل: لماذا زنيت يا فلان؟ يقول: كان ذلك مقدر علي! فهو يحتج بالقدر على المعصية، مع أنه لا يكون شيء في الكون إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ففعل الزنا مكتوب في اللوح المحفوظ، وإقامة الحد كذلك من تقدير الله ومكتوب في اللوح المحفوظ.

ولذلك عمر رضي الله عنه لما أراد أن يدخل الشام وكان قد بلغه أن بها طاعوناً جلس يستشير أصحابه: ماذا نعمل؟ فقال بعضهم: لا ندخل، وبعضهم قال: ندخل، فرجع عمر رضي الله عنه ولم يدخل القرية، فقال له أحدهم: يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله؟ يعني: توكل على الله وادخل القرية، فقال: أفر من قدر الله إلى قدر الله، يعني: هذا الذي نحن فيه كذلك مكتوب علينا.

وسئل علي بن أبي طالب عن القدر فقال: هو سر الله تعالى المكنون، أي: المكتوب فلا يسأل عنه أحد، كما سئل رضي الله عنه عن القدر والكتابة في اللوح المحفوظ فبل إبهامه وطبع به في باطن كفه الأخرى وقال: هذا والله مكتوب في اللوح المحفوظ، أن علي بن أبي طالب سيفعل هذا في المكان الفلاني، في اللحظة الفلانية، بالطريقة الفلانية.

فإيمان علي بن أبي طالب إيمان الأثبات الأولياء، يعلم أنه ما من شيء في الكون إلا ويكون في قدرة الله عز وجل، لكن هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية؟

الجواب

لا، وبعض الناس يظن أن الاحتجاج بالقدر على المعصية أمر لا حرج فيه.

ويحتج بما ورد عن آدم أبي البشر الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأدخله الجنة، إذ قال عليه السلام لموسى: أنت موسى بن عمران الذي كلمك الله تكليماً، وكتب لك التوراة بيده، أترى أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ؟ أي: المعصية التي عملتها -الأكل من ورق الشجر- كانت مكتوبة علي في اللوح المحفوظ، فحج آدم موسى، أي: انتصر آدم على موسى.

فآدم عليه السلام لم يحتج بالقدر قبل أكل الشجرة، وإنما احتج بالقدر بعد أكله من الشجرة، وهذا نهج أهل السنة والجماعة، فإنهم لا يحتجون بالقدر على المعصية إلا بعد التوبة، أما قبلها فهذا مسلك أهل البدع، فالواحد إذا وقع في زلة أو معصية أو حتى في كبيرة من الكبائر فإن الواجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يمتلئ قلبه من الهم والغم والبكاء والحزن، وإذا كان هناك حد بادر إلى إقامة الحد عليه، ويقدم الاستغفار والتسبيح والتهليل والذكر والصدقة وغير ذلك مما يمحو هذا الذنب، ثم هو لا يتمادى في التأثر بهذا الذنب حتى يكون هذا التأثر سبباً في هلاكه، لأن هذا ليس مطلوباً منه، وإنما المطلوب منه التوبة والرجوع إلى الله، لا أنه يجلس في غم وهم ونكد طيلة حياته الباقية مما يعجزه عن القيام بأدنى مهامه التي خلق لها، أو أنه يمتنع عن الطعام والشراب، أو يمتنع عن الجهاد إذا نودي إلى الجهاد، وإنما يجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يستغفر من ذنبه الله تعالى وغير ذلك.

ويقدم من الطاعات والأعمال ما يكون سبباً لكفارة ذنبه الذي ارتكبه.

وعلى أي حال ما وقع ذنب إلا بقدر، وإذا كان الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة فهو أمر مشروع، أما إذا كان قبل التوبة فهي طريقة أهل البدع.

قال: [قال الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ} [الحجرات:١٧]]، من الذي يهدي؟ من الذي يضل؟ يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، يهدي من يشاء مشيئة وإرادة شرعية دينية، ويذل من يشاء إرادة ومشيئة كونية قدرية.

قال: [قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧].

وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:١٠٦]، فهذه طريقة من أحب الله تعالى هدايته إن شاء الله، ومن استنقذه من حبائل الشياطين، وخلصه من فخوخ الأئمة المضلين].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.