[الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع]
وقد يتوجه جواب آخر -انظر هذا الكلام- وهذا الذي كنت أريد أن أخبرك عنه وأقول لك: احفظ هذا المذهب، أي: المذهب الثالث، فإننا سنحتاجه.
والمذهب الثالث: أنه إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز له لومه حينئذ، قال ابن القيم: وهذا وإن كان أقرب مما قبله -يعني: الآراء الفاسدة السابقة- إلا أنه لا يصح لثلاثة أوجه، ثم ذكرها، أي: أنه قال: هو أهون من المذاهب الأخرى، لكنه مع ذلك غير صحيح؛ لثلاثة أوجه، ثم قال هنا: وقد يتوجه جواب آخر، أي: قد يكون الجواب الآخر وجيهاً، وكلمة: (يتوجه) من الوجاهة، أي: قد يصير مذهباً آخر وجيهاً.
قال: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم.
لكن هذا المذهب يقول لك: أنا يستقر في ذهني وينصرف في عقلي أنه مذهب راجح، يقول: وقد يتوجه.
لا والله أنا عندي أن هذا الرأي هو الأوجه.
قال: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد التوبة منه، وعدم العودة إليه قد يكون وجيهاً في موضع ومذموماً في موضع آخر, ثم قال: وهذا هو الرأي الوجيه، أي: أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك -أي: في هذا التوقيت بعد وقوع الذنب والتوبة منه- من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً علي قبل أن أخلق؟ فإذا أذنب رجل ذنباً ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قدر علي قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج بالقدر فيه ففي الحال والمستقبل، أي: أن القدر يحتج به في المصائب التي تنزل بالعبد، والذنوب التي يرتكبها فيما يتعلق بالماضي التائب منه، أما الاحتجاج بالقدر على الذنب الحال، كأن يرى شخص آخر يزني، فقال له: ما هذا يا فلان؟ فرد عليه: لا تتكلم فإن هذا مقدر علي! وأيضاً سأفعل هذا غداً وبعده، والأسبوع الذي سيأتي، والشهر الذي سيأتي وهكذا، وإذا كان مقدر علي فلا بد أن يقع مني! فهل يصح ذلك منه؟ لا، لكن يصح منه في الماضي وبعد التوبة منه.
قال: وأما الموضع الذي يضر في الاحتجاج بالقدر ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب به باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله تعالى فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:١٤٨]، أي: نحن قائمون على الشرك، وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:٢٠]، فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم، وعزم كل العزم على ألا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.