وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن، وجلّى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذكر طوائف العالم الثلاث في أول سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية في أول ربع من سورة البقرة، وذلك لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً؛ لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
والمنافق في هذه الأيام يتكلم من باب الدفاع عن الإسلام في كتاب الله، وفي أحاديث اتفقت كلمة الأمة على صحتها وقبولها بالتواتر، ومع هذا فإنه يقول: هذا كلام لا يتناسب مع العقل والتكنولوجيا والتمدن وغير ذلك، ومعظم ما تتناقله كتب السنة لا يتناسب مع روح العقل، ويجملون وجوههم القبيحة بأنهم يدافعون عن الإسلام لا يدفعون الإسلام، هكذا يقولون! فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم له قد طمسوه، وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوه، وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإٍسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون:{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}[البقرة:١٢]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:٨]، اتفقوا على مفارقة الوحي.
أي: كلمة المنافقين وعلامتهم أنهم اتفقوا فيما بينهم على مفارقة الوحي.
فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون، كما قال تعالى:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:٥٣].
درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها -يعني: ليسوا يعرفون علامات الإيمان- ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وأفلتت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها، لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله، ولم يرفعوا به رأساً، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأساً، خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فقالوا: ما لنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئاً من اليقين، حسبنا ما وجد عليه خلفنا من المتأخرين، فإنهم أعلم بها من السلف الماضين، وأقوم بطرائق الحجج والبراهين، وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور، ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر، ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحذور، فطريقة المتأخرين أعلم وأحكم، وطريقة السلف الماضين أجهل لكنها أسلم هكذا يقولون.
والأشاعرة إذا تكلموا في الصفات يقولون: طريقة السلف أحسن وأسلم، وطريقة الخلف أعلم؛ يعنون: طريقة الخلف الذين يؤولون ويفوضون العلم والمعنى، أما طريقة السلف فهي أسلم وأحكم.
وهذا كلام في غاية السقوط والبطلان، لا يمكن أن يكون هذا أبداً، فطريقة السلف أسلم وأحكم وأعلم، أما طريقة الخلف فهي طريقة مردودة باطلة لا حاجة لنا بها.
قال: قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون، كما قال تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[البقرة:١٠].