للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)]

[وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) أي: يحمل هذا العلم من كل جيل ومن كل عصر عدوله.

والإمام أبو حنيفة ذهب إلى أن كل من طلب العلم، ودعا إلى الله عز وجل فهو عدل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يحمل هذا العلم)، أي: العلم الشرعي (من كل خلف عدوله)، يقومون بهذه المهام.

قال [(ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)].

أما غيره من أهل العلم فإنهم لم يستفيدوا من هذا الحديث أن كل من حمل العلم عدل، فمن أهل العلم من هو من أفسق الناس وأفجر الناس، وليس بلازم أن كل من طلب العلم أو حمله يكون عدلاً ثقة، بل الواقع يؤيد أنه ليس كل من طلب العلم عدلاً، وإذا كان الأمر كذلك فهل يتصور أن أول من تسعر بهم جهنم العدول؟! وأنتم تعلمون الحديث: (إن أول من تعسر بهم جهنم ثلاثة: العالم)، أي: المرائي في علمه الذي طلبه لغير الله، وهذا يدل على أنه ليس كل من طلب العلم عدلاً، وأن من راءى في طلب العلم ليس من العدول، وأن من لم يعمل بعلمه ليس من العدول، وأن من باهى وفاخر وسمَّع وراءى بعلمه ليس من العدول، مع ما هو عليه من علم.

لكن ترد على الأحناف في ادعائهم أن النبي عليه الصلاة والسلام عدل أهل العلم وحملة العلم وطلاب العلم، أن ذلك مشروط بثلاثة شروط قد وردت في نفس الدليل الذي اعتمد عليه الأحناف.

قال: [(ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، أي: أن العالم العدل في كل زمان هو: من حمل العلم أولاً، أي: تعلم وعرف المسائل العلمية الشرعية بأدلتها من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم، وعمل بذلك لله تبارك وتعالى رغبة ورهبة، فهذا هو العالم حقاً.

أما كونه عمل بذلك للناس، فإن هذا العمل إما أن يكون لنفسه، أو يكون متعدياً إلى الغير في الدعوة إلى الله، وهو مع هذا في ليله ونهاره يهتم ويغتم بالرد على انتحال المبطلين، أي: من انتحل نحلة زاغ بها عن نحلة الإسلام، وعن هدي الإسلام، وعن طريق الإسلام، إذ إن الإسلام واحد، ودين الله تبارك وتعالى واحد، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام واحدة، وهديه واحد معروف لدى السلف، فمن انحرف عن مذهب السلف تصدى له أهل العلم الذين حملوه لبيان الحق له، وإثبات الباطل الذي انتحله، فهذا بلا شك من علماء الإسلام.

قال: (ينفون عنه: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين)، والغالون: هم المتنطعون المتهوكون المتشدقون الذين يلوون أعناق النصوص، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بالدليل كما تلوي الأبقار ألسنتها؛ تجليلاً للباطل الذي هم عليه، وتحريفاً للكلم عن مواضعه.

والغالون جمع غال، وهو الذي يتنطع في دين الله عز وجل، إما بإدخال أشياء ليست في دين الله عز وجل عليه، أو بنقصان أشياء من الدين، فإن أدخل هذا المتنطع زيادة في دين الله عز وجل وجب الرد عليه بترك هذه الزيادة والرجوع إلى الأصل؛ لأنه ربما فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام على غير ما فهمه سلف هذه الأمة، وكثير من أصحاب البدع إنما مردهم ومستندهم هو إلى الله ورسوله، وهل يتصور أن أهل البدع أثاروا البدعة وهم يعلمون ويوقنون بأنهم على الباطل المبين؟! لا يتصور ذلك إلا في الباطنية وفرق الشيعة، فإنهم يعلمون أنهم على الباطل المبين، وخاصة غلاتهم، أما أن الإنسان يقرأ في كتاب الله عز وجل، فتضربه آية في أم رأسه فيتوقف عندها ويبني عليها أقوالاً وأعمالاً دون أن يرجع إلى شراح كلام الله عز وجل وما يختص به، ودون أن يرجع إلى شراح سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويفهم فهماً لوحده لم يسبقه أحد من علماء الأمة، ثم يزعم بعد ذلك أن هذا هو دين الله عز وجل؛ فإنه لابد من الرد عليه وإثبات أنه ليس على شيء، وأن ما هو عليه ليس صحيحاً؛ لأن السلف هم أولى الناس بكلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم، وهم أبلغ الناس وأفصح العرب، ومع هذا لم يفهموا ما فهمه هذا الذي يقرأ في كتاب الله عز وجل.

ولذلك يقول الشاعر: وكل يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا أي: كل يدعي أنه محب لليلى، لكن القضية تكمن في محبة ليلى لهؤلاء أو لواحد منهم؛ لأنها ستحار حينئذ، فكل يقول: منهجي ودليلي هو الكتاب والسنة، وفي حقيقة الأمر ليس هذا هو الفيصل، إنما الفيصل كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام بفهم سلف الأمة، أما أهل البدع إذا خاصموا في قضية ما فإنهم يحتجون عليك بقال الله وقال رسوله، لكن الفيصل بينك وبينهم: أنك تفهم قول الله وقول رسوله من واقع فهم سلف الأمة، وهم يفهمون قال الله وقال رسوله من واقع أفهامهم وعقولهم.