[شرح روايات أنس بن مالك لحديث افتراق الأمة]
قال: [وعن أنس بن مالك في حديث طويل له رضي الله عنه عن عمر قال: (تفرقت أمة موسى عليه السلام على إحدى وسبعين ملة، منها سبعون في النار وواحدة في الجنة)].
وهذه الفرقة هم الذين تبعوا موسى في رسالته وفي شرعه حتى جاء عيسى عليه السلام، وحتى بعث محمد عليه الصلاة والسلام، ثم لا يقبل من أحدهم بعد ذلك اقتداءً بموسى؛ لأن موسى عليه السلام لو كان حياً في زمن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام لما وسعه إلا أن يكون تابعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام.
وكذلك النصارى فالفرقة الناجية منهم من كان تابعاً في حياته وفي حياة عيسى لعيسى عليه السلام، أي: في مدة بقاء عيسى مع بني إسرائيل، ونحن نعتقد أن عيسى حي رفعه الله تعالى إلى السماء، وأنه حي في السماء الآن، وسينزل في آخر الزمان.
قال: [(وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة: إحدى وسبعين ملة في النار، وواحدة في الجنة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: وتعلو أمتي على الفريقين جميعاً ملة واحدة)]، يعني: وتزيد أمتي في الافتراق على افتراق أمة اليهود وأمة النصارى بفرقة.
قال: [(ثنتان وسبعون ملة في النار، وواحدة في الجنة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: الجماعة).
قال يعقوب بن يزيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:١٥٩]، ثم يذكر في أمة عيسى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:٦٥ - ٦٦].
ثم ذكر في أمتنا: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:١٨١]].
[وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن سلام!)].
وابن سلام هو عبد الله بن سلام، وكان حبراً من أحبار اليهود في المدينة، قال: [(يا ابن سلام! على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ قال: على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد على بعض بالضلالة)].
وهذه علامة وأمارة أصحاب الأهواء والبدع، فإنهم إذا اختلفوا كفّر بعضهم بعضاً، وضلَّل بعضهم بعضاً، وبدَّع بعضهم بعضاً، وفسَّق بعضهم بعضاً.
وأما أهل الحق فإنهم يخطئ بعضهم بعضاً، وهذا قد قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم وغير واحد من السلف، فقالوا: أهل البدع إذا اختلفوا قال أحدهم لصاحبه: أنت كافر، وأهل السنة إذا اختلفوا قال أحدهم لصاحبه: أنت مخطئ، وشتان ما بين هذا وذاك.
فإطلاق التكفير علامة على أن من قال ذلك مبتدع، إن لم يكن حكمه موافقاً للشرع.
وأصحاب الكبائر عند الخوارج كفار، وغلاة الخوارج يكفرون بالذنب، سواء كان صغيراً أم كبيراً، يعني: أدنى معصية يفعلها العبد يكفر بها عند غلاة الخوارج.
والمعتزلة لهم قول كذلك في مرتكب الكبيرة، فهم يقولون: مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، هذا حكمه في الدنيا، ولا أعرف كيف سيكون التعامل مع إنسان لم تبد هويته ولا يعلم أهو مؤمن أم كافر أم فاسق؟ وأما في الآخرة فإنهم يقولون: إنه مخلد في النار.
والخلود لا يكون إلا للكفار الأصليين، أو الذين طرأ عليهم الكفر، أي: الذين بدلوا دينهم وخرجوا من ملة الإسلام، وهم حكموا عليه في الدنيا بأنه ليس كافراً، وحكموا عليه في الآخرة بأنه مخلد في النار، فوصلوا إلى هذا التخبط، وهذا الكلام لا تصدقه عقول العجائز وصبيان الكتاتيب، ولذلك قال غير واحد من السلف: عليك بدين الصبي في الكُتَّاب والعجوز في البادية، واله عما سواهما، يعني: لا يضرك من خالفهما، وهذا الكلام أحرى أن يكتب بماء الذهب، وكلام السلف عصمة لكل أحد، بل هو حجة على كل أحد، فإذا انحرف الشخص فلينحرف ما شاء، فإنه لا عذر له بعد سماع هذه النصوص بين يدي الله عز وجل إلا أن يأتي ربه بقلب سليم.
قال: [(يا ابن سلام! على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ قال: على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد على بعض بالضلالة، قالوا: أفلا تخبرنا لو قد خرجت من الدنيا فتفرقت أمتك على هذا)].
يعني: يا رسول الله! قد أخبرناك عن بني إسرائيل، فأخبرنا أنت إذا متَّ وخرجت من الدنيا إلام تصير أمتك؟ [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بني إسرائيل تفرقوا على ما قلت يا ابن سلام! وستفترق أمتي على ما افت