[آثار عن السلف في ترك السؤال عما لا يعني، وذم الآرائيين]
قال: [قال ابن شبرمة: من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها] يعني: ليس لكل سائل أن يسأل عما دار في رأسه من محكم ومتشابه، ومن غث وسمين، وإذا فعل فيحرم على المجيب أن يجيب في كل شيء، وإنما يجيب في شيء ينفع السائل، وأما في كل ما يسأل عنه السائل فلا.
ثم قال: [وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً سدده، وجعل سؤاله عما يعنيه، وعلمه ما ينفعه.
وقال أيضاً: إياكم والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق] أي: الأمر الأول.
ثم قال: [وقال أبو يوسف: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم].
وهناك أناس لا يهدأ لهم بال إلا إذا انطلقت ألسنتهم بالكلام والفلسفة والمنطق، ومعرفة المقدمات والنتائج وغير ذلك، ويظنون أنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً عظيماً، وليس الأمر كذلك، بل هذا هو الجهل بعينه إذا لم يكن مضبوطاً بضوابط الشرع.
ثم قال: [وقال زيد بن علي لابنه: يا بني! اطلب ما يعنيك بترك ما لا يعنيك].
يعني: أن الوقت والعمر لا يسع إلا لشيء واحد للنافع أو الضار، فإن انشغلت بالضار شغلك عما ينفعك، وإذا انشغلت بما ينفعك لم يبق وقت للسؤال عما يضرك، فإما هذا وإما ذاك.
ثم قال: [فإن في تركك ما لا يعنيك دركاً لما يعنيك، واعلم أنك تقدم على ما قدمت لنفسك، ولست تقدم على ما أخرت، فآثر -أي: فقدم- ما تلقاه غداً على ما لا تراه أبداً.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: إن ربنا تعالى أبدى شيئاً وأخفى أشياء] أي: أظهر لنا شيئاً وأخفى عنا أشياء، والعاقل من انشغل بما أبداه الله تعالى، وترك ما أخفاه الله عز وجل، فإن خالف هذا الناموس الكوني فلا بد أنه هالك.
ثم قال: [وبلغني عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول: سؤال العبد عما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل له].
وقد جاءني سائل ومعه دفتر قد كتب فيه عدة أسئلة تصل إلى واحد وخمسين سؤالاً، ولا يمكن أن ينتفع بسؤال واحد منها.
فقال: السؤال الأول: ما اسم أم موسى عليه السلام؟ فقلت له: هل ستستفيد من هذا السؤال؟ هل أنت مطالب به ومتعبد به؟ وهل سيسألك الله عنه يوم القيامة؟ وتعبت معه كثيراً حتى أقنعته أن هذا السؤال لا ينبني عليه عمل العبد.
ثم أخرج الدفتر ووجه إلي السؤال الثاني: ما اسم كلب أهل الكهف؟! فالذين انشغلوا بأسماء وصفات الله عز وجل أنظف وأشرف منك بألف مرة مع انحرافهم؛ لأنهم انشغلوا بباب من أعظم أبواب الاعتقاد، وضلوا فيه، ولكن الأبعد انشغل بأسماء الحيوانات والنساء والطيور وغير ذلك، وذكر حوالي اثني عشر اسماً توجد في القرآن لا يلزمه معرفتها.
وتلك الأسئلة فيها عجائب، لكنه أخذ مني الدفتر عنوة لما ضحكت ضحكاً شديداً على بعض الأسئلة، وكان هذا قديماً، وليتني لم أضحك حتى آتي بالباقي.
إذاً: فهذا علمه لا ينفعني، وجهله لا يضرني، وهذا الشخص اتهمني بأنني أصد عن الله عز وجل، وعن ذكر الله، وقال: أليست هذه أشياء ورد ذكرها في القرآن، ونحن مطالبون بالتدبر والتفكر في القرآن ومعرفة آياته؟ فأقول: نعم، ولكن كان ينبغي أن يعلم الحلال والحرام، ومع ذلك لو سألته عن الكبائر والصغائر فإنه لا يعرف شيئاً؛ لأنه أخذ هذه المتشابهات التي لا تعنيه أصلاً وجعلها دينه فحسب.
ثم قال: [وقال طاوس: إني لأرحم الذين يسألون عما لم يكن؛ مما أسمع منهم.
وقال الشعبي: لو أدرك هؤلاء الآرائيون النبي صلى الله عليه وسلم لنزل القرآن كله: يسألونك، يسألونك، يسألونك!].