وقد ناظر جهم قوماً من السمنية الدهرية المجوسية الذين جحدوا الإله، وهذه المناظرة تبين بعض آراء جهم، وهي مناظرة كبيرة مشهورة، قال السمني لـ جهم: نناظرك؛ فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، قالوا له: أنت تزعم أن لك إلهاً؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا =مع أن من كلام الله عز وجل القرآن الكريم- قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حساً؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجساً؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟! ولولا أن الله تعالى حكى في القرآن مقالة الكافرين ما تجرأت على أن أقول حرفاً واحداً من هذا، وما نذكرها إلا على سبيل فضحهم وبينان ضلالهم.
فعند ذلك تحير الجهم، وتحيره دليل على جهله واغتراره بالله عز وجل، فلم يدر من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة والنصارى، وذلك أنه جلس أربعين يوماً يفكر ماذا يقول لهؤلاء القوم؟ ومثل ذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال السمني: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فهل وجدت له حساً؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.