[ما جاء في النهي عن ضرب الأدلة بعضها ببعض، وضرورة إرادة الحق في الجدل]
قال: [وقال أبو أمامة: ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالتها التكذيب بالقدر].
يعني: ينفون عن الله عز وجل علمه بما كان، وأنه لا يعلم ما كان إلا بعد أن كان ووقع، فعلمه بعد أن صار حدثاً، وأما قبل صيرورته حدثاً واقعاً فإن الله لا يعلمه، ويزعمون أن الله تعالى لم يكتب مقادير العباد قبل أن يخلق العباد، فمن نفى علم الله عز وجل السابق ونفى الكتابة؛ فإنه كافر عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا.
قال: [وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل، كما قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:٥٨]] يعني: مهنتهم الخصومة والملاحاة والجدال.
[وعن أبي أمامة قال: (بينما نحن نتذاكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ينزع هذا بآية، وينزع ذاك بآية)].
فانظروا إلى الملاحاة والخصومة! لا يريد أطراف الخصومة أن يصلوا إلى الحق، وإنما كل واحد يريد أن يصل إلى إثبات ما استقر عليه رأيه، وإن كان أمراً شرعياً في أصله، فتجد مثلاً بعض من الإخوة في الصحوة يتربون في قضية ما على رأي واحد، فهو يتبناها، لا لأنه درسها وقرأها وعرف أدلتها وتعبد بهذه المسألة، لكن لأن فلاناً من أهل العلم -المحبب والمقرب إلى قلبه- يميل إلى هذا الرأي؛ فهو كذلك يميل إليه بالعاطفة لا بعلم ولا بدراسة.
ولذلك فكثير من المسائل التي استقرت لديكم ينبغي مراجعتها، ودراستها دراسة علمية؛ حتى تعبد الله تعالى على بصيرة؛ لأن البصيرة هي العلم لا العاطفة.
فلو أننا أشرنا بالأصابع الآن إلى فلان وفلان من الناس الحاضرين وقلنا له: ماذا يترجح لديك في مسألة: كشف الوجه وتغطيته؟ فلا بد أنه يبادر إلى وجوب النقاب وتغطية الوجه.
فإن قلنا له: اذكر دليلاً من القرآن، ودليلاً واحداً من السنة، ورأي من هذا؟ هل هو رأي الجمهور أم غيرهم؟ لتوقف وسكت؛ وذلك لأنه منذ نعومة أظفاره في المساجد وفي طلب العلم استقر عنده رأي وتبناه، وهذا الرأي هو أن النقاب فرض لازم، فربما اعتقد أن كشف الوجه سفور وفجور، فهو يهاجم ويسب ويلعن الرأي الآخر.
والقائم على الرأي الآخر إذا سألته: من أين لك هذا؟ سكت، بل ربما هاجم.
ولو سألت فلاناً من الناس: ماذا تقول في صلاة الجماعة: أهي سنة مؤكدة أم واجبة، أم أنها شرط في صحة الصلاة؟ وهذه هي في صلاة الجماعة، ولكل مذهب أدلته، فماذا درست أنت من أدلة في هذه المذاهب كلها؟ ثم ما الذي ترجح لديك؟
الجواب
أنك تحفظ من أول الأمر أن صلاة الجماعة واجبة، فإذا قلنا: اذكر لنا دليلاً من الكتاب أو من السنة؛ فإنك لا تذكر، ولكنك تربيت على مثل هذا، فأنت ليس عندك استعداد للمناقشة والإقناع.
إذاً: إذا دخل مثل هذا في خصومة ومجادلة لإثبات الرأي الراجح من أقوال أهل العلم؛ أصر على رأيه؛ لأنه تربى عليه، ويصعب عليه جداً أن ينحرف عنه، وأن ينتقل إلى غيره؛ وذلك لأنه لم يدرس، ولما سئل في أول الأمر أظهر الذي ترجح لديه بالعاطفة والهوى، ومحبة للشيخ الذي أفتاه بذلك، فتجده يتعصب جداً ويغضب جداً، وربما يشتكي، وينقل هذا للغير.
بل وربما يشير إلى أن هذا الشيخ يقره، فصار يقول: إن صلاة الجماعة سنة، والمستقر عنده أنها واجبة.
وليس هذا من باب الجدال بالباطل، وإنما هو جدال بالحق، ولذلك نحن إذا فتحنا كتب الفقه -كالمغني والمجموع وغيرهما من الكتب- لوجدنا أن مسائل الإجماع في رأي معين أو علم قليلة جداً؛ ولذلك جمعت في كتيبات، وأما جل مسائل الفقه فمحل نزاع وأخذ ورد، وأصول تختلف من الجمهور إلى الحنفية وغير ذلك، وهم يبنون فتاواهم الشرعية على أساس هذه القواعد الكلية، أو الأصول العامة في علم أصول الفقه، فالأمر يحتاج إلى دراسة موسعة جداً، ورحابة صدر إذا كنا نتناقش لأجل الوصول إلى الحق.
ولذلك ينبغي أن يبتغي كل مجادل الوصول إلى الحق، كما كان السلف رضي الله عنهم يفعلون ذلك.
فـ الشافعي عليه رحمة الله يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
وقال: وما ناظرت أحداً قط إلا تمنيت أن يظهر الله تعالى الحق على لسانه ويده.
أي: على لسانه هو لا لسان الشافعي، مع أن لسان الشافعي من أطيب الألسن، وأعلم الألسن، لكنه تجرد لله عز وجل.
قال: ما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه هو؛ لأن هذا فيه فائدة عظيمة جداً للإمام الشافعي، كون الشافعي يظهر له أن الحق مع خصمه، فهذا يدل على أنه قد علم أدلة لم تكن لديه، فلو علمها قبل المناظرة لقال بها.
وهو القائل: إذا تعارض قولي مع قول النبي عليه الصلاة والسلام فاضربوا بقولي عرض الحائط.
رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وهكذا كل عالم مخلص كتب له القبول عند الله عز وجل وعند المؤمنين، إنما كانت هذه سيرته، فهي سيرة طيبة في إرادة إظهار دين الله عز وجل، بغير تعصب لمذهب، ولا تعصب لقول ولا لشخص، وإنما التعصب دائماً لله عز وجل ولرس