[إقامة دعوة الأنبياء على البلاغ والإرشاد]
قال: [فاعلموا -رحمكم الله- أن هذه طريقة الأنبياء عليهم السلام].
طريقة الأنبياء أن الأمر إذا كان معلولاً -أي: له علة ظاهرة قالوا بها- وإذا خفيت عنهم العلة آمنوا بما جاءهم من عند ربهم ولم يخوضوا في إثبات علته.
كثير جداً مما جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم بين لنا علله، وكثير جداً منه كذلك لم يبين لنا علته، ولكنا نعلم أنه ما من شرع إلا وقد شرعه الله تعالى لحكمة وعلة عظيمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها؛ لأن الله تعالى هو الحكيم، ولا يمكن أن يشرع لعباده شرعاً إلا لحكمة، وأفعاله كلها مبنية على الحكمة سبحانه وتعالى، لكن أحياناً يخفي هذه الحكمة، وأحياناً يظهرها، فإذا أخفاها آمنا بها ولا يجوز لنا أن نخوض فيها؛ لأنه أراد إخفاءها، وإذا أظهرها لنا فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال: [فاعلموا -رحمكم الله- أن هذه طريقة الأنبياء عليهم السلام، وبذلك تعبدهم الله، وأخبر به عنهم في كتابه، أن المشيئة لله عز وجل وحده، ليس أحد يشاء لنفسه شيئاً من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية، إلا أن يشاءها الله، وبالتبري إليه من مشيئتهم، ومن حولهم وقوتهم ومن استطاعتهم، وأن ذلك لا يكون منهم إلا بعد مشيئة الله وإرادته.
قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام حين قال له قومه: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:٣٢]، فقال نوح عليه السلام مجيباً لهم: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود:٣٣]].
يعني: إذا شاء الله تعالى أن يرد عليكم أنزل الوحي، وإلا فأنا لا أستطيع أن آتيكم بشيء بغير مشيئة الله.
قال: [{وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:٣٤]]، يعني: رغم دعوتي لكم بالليل والنهار على مدار عقود من الزمن إلا أن هذا الكلام وهذا النصح لا ينفعكم إذا كان الله تعالى قد قدر لكم الضلال في اللوح المحفوظ.
قال: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} [هود:٣٤] هو الذي علم ما أنتم إليه صائرون، وما أنتم به في حياتكم فاعلون، فإذا أردت أن أنصح لكم، وأراد الله تعالى إضلالكم فلا ينفعكم نصحي حينئذ، ولكنه يقيم عليهم الحجة، ولا يحل له أن يمكث بغير دعوة قومه.
قال: [فلو كان الأمر كما تزعم القدرية كانت الحجة قد ظهرت على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولكن الحجة قائمة بقول الله تعالى حاكياً عن نوح على قومه، ولم تقم من قومه على نوح].
قال: [ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه، وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده؛ فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:٨٩] ثم قال شعيب في موضع آخر: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:٨٨]]، يعني: أنا إذا أردت التوفيق فلا يكون ذلك مني إلا بإرادة الله عز وجل.
قوله: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:٨٨] أي: ليس من عند نفسي، بل توفيقي وتسديدي هو من عند الله عز وجل، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨].
قال: [وقال إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:٨٠]، من الذي هداه؟ الله عز وجل، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:٨٠]، وقال أيضاً فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه، وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:٣٥]]، يعني: إبراهيم عليه السلام إمام الملة السمحاء يخاف على نفسه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:٣٥]، وهذا الكلام معناه: أنه يعلم أن ذلك بيد الله عز وجل، لو أراد أن يزيغهم أزاغهم، ولو أراد أن يضلهم أضلهم، فطلب منه الهداية والبقاء على العبادة