وكذلك: القرامطة؛ لأن أول من دعا الناس إلى مذاهبهم رجل يقال له: حمدان قرمط، أو حمدان قرمطة، وهي إحدى قرى واسط بالعراق، وأصل دعوتهم إبطال الشرائع؛ لأن الغيارية -وهم طائفة من المجوس- راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم؛ وذلك أنهم اجتمعوا وتذكروا ما كان عليه أسلافهم من الملك، وقالوا: لا سبيل لنا إلى دفع المسلمين بالسيف؛ لغلبتهم واستيلائهم على الممالك.
وهذا نفس الذي يصنعه اليهود الآن، حيث أيقنوا بأنه لا يمكن غلبة المسلمين بالسيف، وأن مواجهة المسلمين بالسيف سيجعل القاصي والداني يدافع عن دينه وعرضه ووطنه، فراموا إلى تغيير الشرائع عند ذلك، فغيروا وبدلوا دين المسلمين على أيدي أبناء لهم في بلاد المسلمين لا على أيديهم هم، وهذا وضع طبيعي جداً، ولذلك فما أشبه اليوم بالبارحة.
فقالوا: لكننا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا، ونستدرج به الضعفاء منهم.
ولذلك لا يمكن قط أن يدعوا العلماء، أي: لا يمكن لأي فرقة ضالة أن تدعو عالماً إلى دعوتها وإلى مذهبها، ودائماً تجد في أصول المبتدعة أنهم لا يدخلون بيتاً فيه سراج، ويقصدون بالسراج: العالم، وهذا أمر مشهور عند جماعة التبليغ، واسمحوا لي أن أفصح عن هذا.
فجماعة التبليغ يقولون: لا ندخل بيتاً فيه سراج، وإذا أتيت إلى جماعة التبليغ لوجدت أن من تعاليم الزعيم الأول الذي أسس هذه الجماعة وهو الكاندهلوي أنه يحذر أتباعه من أن يدخلوا بيتاً فيه سراج، ويقصد بالسراج: العالم؛ لأن العالم عنده من الحجج ما يستطيع بها أن يرد عليهم، وأن يثبت أن ما هم عليه ضلال.
فكذلك هؤلاء إنما يدعون الضعفاء، وهذا يوجب اختلافهم واضطراب كلمتهم، ورئيسهم في ذلك هو حمدان قرمط، ولهم في الدعوة مراتب، ولابد أن تدرك أن الذي بلغ مبلغاً عظيماً في الباطل لم يبلغه في يوم وليلة، وإنما تدرج في هذا الباطل درجة بعد أخرى، وسلماً بعد آخر، وفي كل درجة يمكث فترة من الزمان كفيلة باستمرار هذه الدرجة، ثم الإيمان بهذه الدرجة، أي: أن يصدق بما هو عليه، وإذا كان يعلم من قبل أنه باطل لكن بمكثه على الباطل فترة من الزمان يألفه، فإذا ألفه صدقه، وإذا صدقه دافع عنه، وإذا دافع عنه دعا إليه بعد ذلك.
ولذلك الباطل لا يمكن أن يستقر في القلب بين يوم وليلة، بل لابد من المكوث عليه فترة طويلة من الزمان؛ حتى يتأهل صاحبه إلى الدعوة إلى هذا الباطل.