[كلام الإمام النووي في عدم كفر مرتكب الكبيرة]
قال النووي عند شرحه لحديث (لا يزني الزاني حين يزني): القول الصحيح الذي قاله المحققون إن المؤمن لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وإنما يفعلها وهو ناقص الإيمان، ويبلغ به النقص إلى أصل الإيمان.
قال: وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي شيء ويراد نفي كماله، وهذا معروف في كلام العرب، أي: أن ينفى الشيء ويقصد نفي البعض، وهذا كما لو أكلت عند أحد إخوانك فقال: لم لم تأكل؟ فتقول: قد أكلت الطعام كله، وأنت في حقيقة الأمر لم تأكل الطعام كله، وإنما أكلت بعضه، ولكنك تعبر عن أنك قد أكلت حتى لم يبق في بطنك موضع.
قال: وإنما أولناه على هذا -أي: نقص الإيمان- لأنه قد جاء في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق).
وهذا قد جاء في حديث أبي ذر في الصحيح، فنفي الإيمان عن الزاني والسارق لا يجتمع مع هذا الحديث الذي يقول: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق)، وإنما المعنى أنه في مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه أولاً ثم خرج من النار ودخل الجنة، فمن قال لا إله إلا الله، أي: من كان موحداً لله عز وجل فمآله إلى الجنة إما أولاً مع المؤمنين، وإما بعد أن يدخل النار ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، فهو لا محالة لا بد أن يدخل الجنة، إما مع الداخلين أولاً بغير عذاب ولا سابقة حساب، وإما أن يدخل النار فيتطهر من ذنوبه ثم يخرج منها ويدخل الجنة.
وأما الجنة فمن دخلها فإنه لا يخرج منها.
قال: وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا، كما قال عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله على أن لا نسرق ولا نزني ولا نشرب الخمر).
فيدل على أن هذه المعاصي التي بايعوا على عدم اقترافها مؤثرة تأثيراً مباشراً في الإيمان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام مبيناً لهم بعد أن بايعوه على هذه الشروط: (فمن وفى منكم فأجره على الله)، يعني: الذي يفي ببنود هذه البيعة أجره على الله عز وجل، وهو سبحانه يوفيه حقه؛ لأنه قد وفى ببنود البيعة.
قال: (ومن فعل شيئاً من ذلك)، أي: ومن قارف سرقة أو زناً أو شرب خمر أو غير ذلك، (فعوقب في الدنيا فهو كفارة له)، يعني: إن أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ولا يؤاخذه الله عز وجل به في الآخرة.
(ومن فعل ولم يعاقب)، أي: ومن فعل منكم وتاب إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه، فإن تاب وبلغ الأمر السلطان وجب إقامة الحد ولو بعد التوبة؛ لأن الحد إذا بلغ السلطان وجب إقامته، ولا مجال لاختيار السلطان في مثل هذا، فإن لقي العبد ربه مصراً على ذنبه مقراً بحرمته فهو تحت مشيئتة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨]، يعني: أن الكفر والشرك لا يغفران قط حتى وإن تلبس صاحبهما بالطاعة بالليل والنهار، فلا يقبل منه هذا قط حتى يكون موحداً، وإذا لم يكن موحداً فإن جاء بكل الطاعات التي أمر بها الله عز وجل وأمر بها رسوله، فسيجد هذا العمل كله هباءً منثوراً؛ لأن الله تعالى لا يقبل عملاً صالحاً إلا إذا كان مصدره الإيمان، فإذا كان مشركاً فلا يقبل منه ذلك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨].
والذي دون الشرك هو الذنوب كبيرها وصغيرها، من السرقة والزنا وشرب الخمر وغير ذلك من الكبائر، ولما سئل ابن عباس: هل الكبائر سبع كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات وعد سبعاً من الذنوب الكبائر؟ فقال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب، ولكن هذا الحديث عد أعظم الذنوب، وهذا لا ينفي أن تكون هناك ذنوب عظيمة أخرى لم يعدها الحديث.
قال: وقد أجمع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير المشرك لا يكفرون بذلك، مستدلين بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨].
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنا وإن سرق).
مع إجماع أهل العلم أن القاتل والسارق والزاني وغيرهم من أصحاب الكبائر لا يكفرون بهذه الكبائر؛ فهم يستدلون على عدم كفر مرتكب الكبيرة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال: بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر فهم في المشيئة، إن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة.