[إشكال حول عدالة الصحابة والجواب عليه]
البعض يقول: كيف نحكم بعدالة الصحابة جميعاً، مع أنهم ينسون كما ينسى غيرهم من البشر ويبتدعون كما ابتدع من أتى بعدهم، بدليل أن البدع إنما ظهرت في زمن علي بن أبي طالب، بل وفي زمن عثمان؟ وأقول: إن نسيان الصحابة أقل ما يكون، ولذلك أجمع النقاد على أن الثقة يهم أحياناً، وأن الضعيف يتقن أحياناً، فإذا وافق الراوي الضعيف في روايته أحد الثقات دلت موافقته على أنه ضبط هذا الحديث وأتقنه.
وكذلك الثقة يهم أحياناً كما أن الضعيف يضبط أحياناً.
والنسيان في طبقة الصحابة أقل ما يكون، وهذا أمر لا يجرح العدالة ألبتة، وهذا بإجماع أهل العلم.
الأمر الثاني: إن القول بأن الصحابة قد ابتدعوا في دين الله عز وجل، والاستدلال على ذلك بظهور البدع في زمن علي بن أبي طالب، وفي زمن عثمان رضي الله عنهما، كبدعة الخوارج والشيعة مثلاً، وهذه من أصول البدع بالإجماع، وقد ظهرت في الزمن الأول، وفي الحديث أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن أتيا إلى مكة وقالا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام نسأله عما ظهر في زمننا بالبصرة، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف بالكعبة، قال حميد: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فظننت أنه سيكل الكلام إلي، قلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم -وفي رواية: يتفقرون العلم- والمعنى: أنهم يطلبون العلم طلباً حثيثاً، ويتفقهون في العلم بأنفسهم لا على يد عالم، وإنما يطلبون دقائق المسائل، حتى استحقوا التعمق، يعني: كانوا في غاية التنطع في طلب العلم، فهم يطلبون دقائق المسائل ويتركون عظامها، ويقولون: إن الأمر أنف، وفي رواية: إنه لا قدر، وأن الأمر أنف.
قال: أوقد قالوها؟ يعني: هؤلاء قد ظهروا؟ قلنا: نعم، قال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني فهذه بدعة القدرية ظهرت على يد معبد الجهني في زمن الصحابة، لكن هذه الروايات لم تصرح أن هؤلاء المبتدعة هم من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وليس في الرواية تصريح بأن البدعة وقعت في الصحابة، وإنما وقعت في التابعين ومن أتى بعدهم، والصحابة هم الذين تصدوا لنبذ هذه البدعة وقمعها، وبيان أنهم كانوا على غير ذلك، وبينوا معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بكل بدعة على حدة.
والصحابة رضي الله عنهم معصومون في مجموعهم بعصمة الله تعالى لهم، كيف لا والله تعالى أحبهم ورضي عنهم ورضوا عنه، وكيف يرضى الله تبارك وتعالى عن قوم قد غيروا دينه وبدلوا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يذاد أناس عن الحوض فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك -أي: ما بدلوا وما غيروا- فأقول: سحقاً سحقاً -أي: بعداً بعداً- لمن بدل بعدي).
فالتبديل والإحداث إنما ظهر في غير الصحابة، وإن كان هذا التغيير والنفاق قد ظهر في زمن الصحابة.
وأصول البدعة هي بدعة الخوارج، وقد ظهرت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أتى رجل وقال: (يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعطوا هذا الرجل حتى يرضى، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئي هذا من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
والخوارج كلاب النار، كما جاءت بذلك الأخبار عن السلف رضي الله عنهم.
فبعض البدع ظهرت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما على جهة الخصوص، ولم تظهر في زمن أبي بكر؛ لانشغال أبي بكر بالردة، ولا في زمن عمر رضي الله عنه، فـ عمر قمع هذه الفتن كلها، وما استطاع أحد أن يظهر بدعته؛ لشدة عمر وقوته، فقد كان عمر يؤدب من يخرج عن الجادة بضربه على أم رأسه بالجريد والنعال، فلما علم المبتدعة بذلك كل دخل جحره، ولم يخرجوا إلا في فترات الضعف والوهن والتفرق والشتات والشذوذ، فزمن القوة حافظ لدين الأمة بأسرها، وزمن الضعف مهين لأفراد الأمة كلها.
وقال عبد الله بن عمرو: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل)، يعني: مثل التفرق الذي وقع في بني إسرائيل من اليهود والنصارى تماماً بتمام، وسواء بسواء.
قال: (حذو النعل بالنعل، فإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة أو ملة، قال: وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، أي: التمسك بالهدي الأول، ونحن نحفظ قول