[الدخول على السلاطين وأثره على العلماء والدعاة]
قال: [وقال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ما معه منه شيء].
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن).
فقوله: (من بدا جفا)، أي: من سكن البادية كان فيه شيء من الجفاء والغلظة، وهذا أمر معلوم مشاهد.
(ومن اتبع الصيد غفل)، أي: غفل عن الذكر والتسبيح والصلاة وغيرها؛ لأنه يهوى الصيد، فقد انشغل به واستحوذ على قلبه، مع أنه من المباح، لكن لا ينبغي الانشغال بالمباح عن الواجب.
(ومن أتى السلطان افتتن)؛ لأن إتيان السلطان مرهون بالفتنة، إلا أن يكون سلطان خير ودين وتقوى وصلاح، فيجب على أهل العلم حينئذ إعانته على مسئوليته، وعلى المهمة التي أنيطت برقبته، أما إذا كان غير ذلك فيحظر على الرجل أن يقترب منه، وإلا فالفتنة على باب بيته.
يذكر أن محمد بن واسع دخل على مالك بن دينار، وإذا برسول السلطان يعطي مالكاً صرة فيها مال، فقبل مالك هدية السلطان وأنفقها في الناس، ولم يأخذ منها شيئاً، فقال محمد بن واسع: أقبلت هدية السلطان؟ قال: أما رأيتني قد أنفقتها في طلاب العلم؟ قال: أسألك بالله أقلبك عليه بعد أن أخذت الصرة كقلبك عليه قبل أن تأخذها؟ قال: لا.
والله إني حمار.
وهذا فقه عظيم جداً؛ ولذلك أذكر أن أحد الدعاة قد أمات نفسه وهو حي، صعد المنبر في سنة (١٩٨١م)، وقال: إن لمصر إلهين: إلهاً في السماء، وإلهاً في الأرض، وهو مجلس الشعب، وكان يفتينا بأن حزب العمل والوفد وغيرها من الأحزاب أحزاب بدعية شركية، فإذا به يدخل في الحزب، ويدخل مجلس الشعب، فلما حدثناه في ذلك، قال: أنتم لا تدرون ما العلاقة التي بيني وبين فلان؟ إنها علاقة قوية نقية، وكلها خير، والرجل على صلاح وتقوى ودين وخلق؛ فقلنا له: لم كفرته آنفاً؟ إما أن تعرف عنه ما عرفته الآن، فتكون قد كفرت رجلاً أنت تعلم أنه على خير، وعلى دين، وإما أن تكون قد جهلت هذا؛ فتكون قد كفرت بغير علم، فأنت في حرج في الحالين.
فأرسل الله تعالى إليه جنداً من السماء، وهو جند الحب والبغض؛ فأبغضه شباب الصحوة وانصرفوا عنه تماماً، فهو الآن حي ميت، لا يتكلم بكلمة قط لله عز وجل؛ لأنها غير مسموعة تماماً، وهذه عقوبة نزلت من السماء.
وكان السلف رضي الله عنهم يتحرجون أشد التحرج من الدخول على السلطان، حتى وإن كان فيه نوع صلاح.
سفيان الثوري كان من أشد الناس هرباً عن بيوت السلطان، فقد دعاه سلطان الكوفة مرة، وأرسل إليه مرات ومرات فلم يأته، فحملوه حملاً حتى وضعوه على بساط السلطان، فدخل وجلس ولاطفه السلطان وكلمه بكلام يليق بمنزلة أهل العلم وكرامتهم، وطلب منه أن يتولى قضاء الكوفة، فقال: أنا لا أعرف القضاء، فلما ضغط عليه أظهر أنه مريض أو مجنون، فلما رأى ذلك منه السلطان، وعلم أنه لن يصلح معه أي حيلة قال: انصرف على أن تأتينا.
قال: أفعل.
قال: أتعد بذلك؟ قال: نعم.
فخرج سفيان الثوري وترك نعله، ثم عاد مرة أخرى ليأخذ نعله، ففطن لذلك أحد الجالسين وقال: يا فلان! إن سفيان لن يأتيك بعد ذلك، إنه قد وفَّى بما وعد، ودخل مرة أخرى.
أرأيتم الهروب من السلطان إلى أين يصل؟ هي والله فتنة عظيمة جداً.
قال: [إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ما معه منه شيء.
قيل: لم يا أبا عبد الرحمن؟! قال: لأنه يرضيه بما يسخط الله عز وجل عليه].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.