للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من العسل لأجل ما أطلب وأرجو. كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم. وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى انني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من العلم من خوف الله عز وجل، ولولا خطايا لا يخلو منها البشر لكنت أخاف على نفسي من العجب [١] .

وكانت مدينة بغداد يومئذ شأنها في كل عهودها العربية الإسلامية زاخرة بالمعاهد والعلماء، ولم تفتر فيها الحركة العلمية إطلاقا، فساعد ذلك ابن الجوزي على الاختلاف إلى شيوخه في وقت مبكر في حياته حدده بعضهم بعام ٥١٦ هـ-، وآخرون بعام ٥٢٠ هـ-. بيد أن ابن الجوزي كان أكثر تطرفا في هذا الشأن إذ ذكر سماعه على محمد بن محمد الخزيمي (ت ٥١٤ هـ-) وقال: «ورأيت من مجالسه أشياء قد علقت عنه فيها كلمات ولكن أكثرها ليس بشيء فيها أحاديث موضوعة وهذيانات فارغة يطول ذكرها» وكان عمره يومئذ في أكثر تقدير خمسة أعوام إذا أخذنا بتحديد ميلاده عام ٥٠٨ هـ-، وإلا فإن عمره- في هذا النص لو صح- لا يتجاوز الثلاث سنين، وهو أمر مستبعد. ولكنه من الثابت أنه أقبل على الدرس منذ نعومة أظفاره يدفعه إلى ذلك تشجيع ذويه وميوله الذاتية. وقد أكسبه حب العلم والإقبال عليه ثقافة واسعة مستمدة من معاهد العلم في بغداد، لأنه لم يخرج منها طيلة حياته إلا لأداء فريضة الحج وأخيرا نفيه إلى واسط، ومن ثم فإن ثقافته بغدادية خالصة، ولا يقدح بثقافته كونها لم تتجاوز حدود بغداد إلى غيرها من الحواضر الإسلامية، ذلك أن بغداد كانت ملتقى رجال العلم والفكر من شتى أنحاء العالم الإسلامي، ومن هنا فهي تمثل عالم الإسلام كله من أقصاه إلى أقصاه بلا استثناء [٢] .

وليس أدلّ على أن ابن الجوزي يعد من أئمة عصره في شتى العلوم، من قول أئمة


[١] صيد الخاصر. لابن الجوزي ص ١٩١، ١٩٢.
[٢] كتاب المنتظم، دراسة في منهجه وموارده وأهميته، للدكتور حسن عيسى علي الحكيم. ص ٤٦، ٤٧. ط عالم الكتب بيروت.

<<  <  ج: ص:  >  >>