للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيا أيها اللبيب المستبصر فيهم تذهب أيامك ضياعا؟ وعما قليل [١] يقع محذورك، وينزل بك ما اطرحته وراء ظهرك، فأسلمك عشيرك، وفر منك قريبك، فنبذت بالعراء، وانفضت عنك الدنيا.

فامهد لنفسك أيها المغرور، واعمل قبل ركوب المضيق وسد الطريق، فكأني بك قد أدرجت في أطمارك، وأودعت ملحدك، وتصدع عنك أقربوك، واقتسم مالك بنوك، ورجع القوم يرعون في زهرات موبق دنياك التي كدحت لها وارتحلت عنها، فأنت كما قال الشاعر:

سترحل عن دنيا قليل بقاؤها ... عليك، وإن تبقى فإنك فان

إن الله عبادا فروا منه إليه فجالت فكرتهم في ملكوت العظمة، فعزفت عن الدنيا نفوسهم.

أيها الناس، أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد خلفاء الله، وأمراء المؤمنين، وساسة الرعية؟ أسمعهم الداعي، وقبض العارية معيرها، فاضمحل ما كان كأن لم يكن، وأتى ما كأنه لم يزل، وبلغوا الأمد، وانقضت بهم المدة، ورفضتهم الأيام وشمرتهم الحادثات، فسلبوا عن السلطنه، ونفضوا لدة الملك، وذهب عنهم طيب الحياة، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور، واستبدلوا بلينة الوطاء خشونة الثرى، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب. فرحم الله عبدا مهد لنفسه، واجتهد لدينه، وأخذ بحظه، وعمل في حياته، وسعى لصلاحه، وعمل ليوم (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ) ٣: ٣٠ [٢] أيها الناس، إن الله عز وجل [٣] جعل الموت حتما سبق به حكمه، ونفذ به قدره، لئلا يطمع أحد في الخلود، ولا يطغي المعمر عمره، وليعلم المخلف بعد المقدم أنه غير مخلد. وقد جعل الله الدنيا دارا لا تقوم إلا بأئمة العدل، ودعاة الحق، وإن للَّه عبادا


[١] في الأصل: «وعن قليل يقع» . وما أوردناه من ت.
[٢] سورة: آل عمران، الآية: ٣٠.
[٣] في الأصل: «إن الله جل وعز» . وما أوردناه من ت.

<<  <  ج: ص:  >  >>