للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ أَبُو عامر: فقمت مَعَ الرسول حَتَّى أتى بي إِلَى فناء فأدخلني منزلا رحبا خربا.

فَقَالَ لي: قف ها هنا حَتَّى أستأذن لك. فوقف، فخرج إلي فَقَالَ لي: لج. فدخلت، ٥٧/ ب فإذا بيت مفرد فِي الخربة، لَهُ باب/ من جريد النخل، وإذا بكهل قاعد مستقبل القبلة، تخاله من الوله مكروبا، ومن الخشية محزونا، قَدْ ظهرت فِي وجهه أحزانه، وذهبت من البكاء عيناه، ومرضت أجفانه، فسلّمت عليه، فرد علي السلام، ثُمَّ تحرك، فإذا هو أعمى أعرج مسقام. فَقَالَ لي: يا أبا عامر، غسل اللَّه من درن الذنوب قلبك، لم يزل قلبي إليك تواقا، وإلى سماع الموعظة منك مشتاقا، وبي جرح بعد [١] ، قَدْ أعيا الواعظين دواه، وأعجز المتطببين شفاؤه، وقد بلغني نفع مراهمك للجراح والآلام، فلا تألو- رحمك اللَّه- فِي إيقاع الترياق، وإن كَانَ مر المذاق، فإني ممن يصبر عَلَى ألم الدواء رجاء الشفاء. قَالَ أَبُو عامر: فنظرت إِلَى منظر بهرني، وسمعت كلاما قطعني، فأفكرت طويلا، ثُمَّ تأتى من كلامي مَا تأتى، وسهل من صعوبته مَا منه يرق لي. فقلت:

يا شيخ، ارم ببصر قلبك فِي ملكوت السماء، وأجل سمع معرفتك فِي سكان الأرجاء، وتنقل بحقيقة إيمانك إِلَى جنة المأوى فترى مَا أعد اللَّه فِيهَا للأولياء، ثُمَّ تشرف عَلَى نار لظى فترى مَا أعد فِيهَا للأشقياء، فشتان مَا بين الدارين، أليس الفريقان فِي الموت سواء؟ قَالَ أبو عامر: فأن أنة، وصاح صيحة، وزفر والتوى، وَقَالَ: يا أبا عامر، وقع والله دواؤك عَلَى دائي، وأرجو أن يكون عندك شفائي، زدني رحمك اللَّه. فقلت لَهُ: يا شيخ، إن الله عالم بسريرتك، مطلع عَلَى خفيتك، شاهدك فِي خلوتك بعينه، [أين] [٢] كنت عند استتارك من خلقه ومبارزته. فصاح صيحة كصيحته الأولى. ثُمَّ قَالَ:

من لفقري، من لفاقتي، من لذنبي، من لخطيئتي؟ أنت يا مولاي، وإليك منقلبي. ثُمَّ خر ميتا رحمه اللَّه. قَالَ أَبُو عامر: فأسقط فِي يدي وقلت: ما جنيت عَلَى نفسي.

فخرجت إِلَى جارية عَلَيْهَا مدرعة صوف، وخمار من صوف، قَدْ ذهب/ السجود بجبينها ٥٨/ أوأنفها، وأصفر لطول القيام لونها، وتورمت قدماها، فقالت: أحسنت والله يا حادي قلوب العارفين، ومثير أشجان غليل المحزونين، لا نسي لك هَذَا المقام رب العالمين، يا أبا عامر، هَذَا الشيخ والدي، مبتلى بالسقم منذ عشر سنين، صلى حتى أقعد، وبكى


[١] هكذا في الأصل وفي ت: «نعل» .
[٢] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل وأثبتناه من ت.

<<  <  ج: ص:  >  >>