وفي يوم الأربعاء حادي عشر شوال: نزل الملك أبو طاهر من داره على سكر وانحدر في سميرية بمنكور إلى دار الخلافة، ومعه ثلاثة نفر من حواشيه، وصعد إلى بستان الدار، ورمى بعض معيناته القصب ودخله، ثم جلس تحت شجرة واستدعى نبيذا فشربه، وأمر الزامر أن يزمر فزمر، وعرف الخليفة ذلك فشق عليه وأزعجه وغلقت أبواب الدار على وجه الاستظهار، ثم خرج إليه القاضي أبو علي ابن أبي موسى، وأبو منصور بن بكران الحاجب، فخدماه ووقفا بين يديه وقالا له: قد سر مولانا السلطان قرب مولاه وانبساطه، وأما النبيذ والزمر فإنهما مما لا يجوز في هذا الموضع، فلم يقبل ولا امتنع، وقال لأبي منصور بن بكران: قل لمولانا أمير المؤمنين أنا عبدك، وقد حصل وزيري أبو سعد في دارك ووقف أمري بذلك، وأريد أن يتقدم بتسليمه إلي، فأراد أبو منصور أن يجيبه فزبره، وقال له: ليس الخطاب معك ولا الجواب عليك، وإنما أنت رسول، فامض وأعد ما قيل لك: فمضى وعاد بجواب يقال فيه: ما نعلم أن الوزير في دارنا ولا ها هنا امتناع عليك/ مما يؤدي إلى صلاح أمرك، فرده. وقال: أريد جوابا محصلا بفعل أو منع، فعاد وقال: الأمر يجري على ما تؤثره، فقال للمختص أبي غانم:
أشهد عليهم بأنهم يسلمون وزيري، فقال له: الأمر لك، وجعلوا يدارونه حتى نزل إلى زبزبه، وأصعد إلى داره، واجتمع من العامة على دجلة خلق كثير يهزءون بالقول ويخرجون إلى الحرق ومعهم سيوف وسكاكين مستورة، فلما كان من الغد استدعى الخليفة المختص أبا غانم، والقائد أبا الوفاء وقال لهما: قد عرفتما ما جرى أمس وإنه أمر زاد علي الحد وتناهى في القبح وقابلناه بالاحتمال والحلم وكان الأولى بجلال الدولة أن يتنزه عن فعله وينزهنا عن مثله ويتخلق بأخلاق آبائه في مراعاة الخدمة والتزام الحشمة، ويكفي ما نحن محملوه من مجاري الأفعال المحظورة ومتحملوه فيها من سوء السمعة والأحدوثة، فإن جرائر ذلك متعلقة بنا وأوزاره متعدية إلينا، إذ كانت هذه الأمور معصوبة بنا، وإنما فوضناها إلى جلال الدولة إحسانا للظن به، واعتقادا للجميل فيه، وليس من حقوق ذلك وما نفضي عليه من الأسباب المذكورة، ونتجرعه فيها من المرارة الشديدة، أن يرتكب معنا هذه المراكب المستنكرة ويجترئ علينا هذه الجرآت المستمرة، ونعامل حالا بعد حال، ووقتا بعد وقت بما يفارق فيه المراقبة والمجاملة،