للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تجيء خلفي إلى الحلقة [١] فتأخذ بيدي، وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي، لما يرى من حرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا كسب [٢] له، وأنا/ أطعمه من مغزلي، وآمل أنه يكسب دانقا يعود به عَلَى نفسه. فقال لها أبو حنيفة: مري يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت وقالت لَهُ: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك.

ثم لزمته، فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدّم إلي هارون فالوذجة بدهن [فقال لي هارون: يا يعقوب، كل منه، فليس كل يوم يعمل لنا مثْلَه. فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين؟ فَقَالَ: هذه فالوذجة بدهن] [٣] الفستق، فضحكت. فقال لي: مم تضحك؟

فقلت: خيرا، أبقى الله أمير المؤمنين. فقال: لتخبرني. وألحّ عليّ، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فتعجب من ذَلِكَ، وقَالَ: لعمري إن العلم يرفع وينفع دنيا وآخرة.

وترحّم على أبي حنيفة، وقَالَ: كان ينظر بعين عقله ما لا يرى بعين رأسه [٤] .

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِي بْن الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حدثني أَبِي قَالَ: كَانَ سَبَبُ اتِّصَالِ يُوسُفَ بِالرَّشِيدِ أَنَّهُ قَدِمَ بَغْدَادَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي حَنِيفَةَ، فحنث بعض الْقُوَادِ فِي يَمِينٍ، وَطَلَبَ فَقِيهًا يَسْتَفْتِيهِ [٥] فِيهَا، فَجِيءَ بِأَبِي يُوسُفَ فَأَفْتَاهُ أَنَّهُ لَم يَحْنَثْ، فَوَهَبَ لَهُ دَنَانِيرَ، وَأَخَذَ لَهُ دَارًا بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَاتَّصَلَ بِهِ، فَدَخَلَ الْقَائِدُ يَوْمًا إِلَى الرَّشِيدِ فَوَجَدَهُ مَغْمُومًا، فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ غَمِّهِ، فَقَالَ: شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ قَدْ أَحْزَنَنِي فاطلب لي فقيها أستفتيه فَجَاءَهُ بِأَبِي يُوسُفَ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَلَمَّا دَخَلْتُ إِلَى مَمَرٍّ بَيْنَ الدُّورِ رَأَيْتُ فَتًى حَسَنًا عَلَيْهِ أَثَرُ الْمُلْكِ/، وَهُوَ فِي حُجْرَةٍ مَحْبُوسٌ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِإِصْبَعِهِ مُسْتَغِيثًا، فَلَمْ أَفْهَمْ عَنْهُ إِرَادَتَهُ، فَأُدْخِلْتُ إِلَى الرَّشِيدِ، فَلَمَّا مَثُلْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمْتُ وَوَقَفْتُ، فَقَالَ لِي: مَا اسْمُكَ؟ قُلْتُ: يَعْقُوبُ، أَصْلَحَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قال: ما تقول


[١] إلى الحلقة» ساقطة من ت.
[٢] في ت: «لا شيء له» .
[٣] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[٤] تاريخ بغداد ١٤/ ٢٤٤، ٢٤٥.
[٥] في ت: «ليستفتيه» .

<<  <  ج: ص:  >  >>