وأبو الحارث لا يؤثر مقامك في هذا البلد، وأنا أنقلك إلى الحديثة، وأسلمك إلى مهارش ابن عمي، وفيه دين، فلا تخف، واسكن إلى مراعاتي لك وعد إلى مكانك.
فلما يئس منه قام عنه وهو يقول: للَّه أمر هو بالغه، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم.
وعبر قريش ليلة الأربعاء/ التاسع من ذي الحجة إلى الجانب الغربي، وضرب ١٩/ أخيمة بقرب جامع المنصور، وحمل الخليفة إلى المشهد بمقابر قريش، وقال له: تبيت الليلة فيها. فامتنع وقال: هؤلاء العلويون الذين بها يعادوني. فألزم الدخول وبات ليلته في بعض الترب، وحضر من الغد جماعة من أصحاب البساسيري وأصحاب قريش، فتسلموه من موضعه، وأقعدوه في هودج على جمل، وسيروه إلى الأنبار، ثم إلى حديثة عانة على الفرات، وكان صاحب الحديثة مهارش البدوي حسن الطريقة، فكان يتولى خدمة الخليفة، ولما بلغ الخليفة الأنبار شكا وصول البرد إلى جسمه، فأخرج شيخ من مشايخ الأنبار يعرف: بابن مهدويه جبة برد، فيها قطن ومقيارًا ولحافا، وكتب الخليفة من هناك رقعة إلى بغداد يلطف فيها بالبساسيري وقريش، يدعوهما إلى إعادته إلى بغداد، وإحسان العشرة، ويحلف بالأيمان المؤكدة على براءة ساحته من جميع ما نسب إليه، فلم يقع الالتفات إليها ولا أجيب عنها، فأقام الخليفة بالحديثة.
وذكر عبد الملك بن محمد الهمذاني عن بعض خواص القائم أنه قَالَ: لما كنت بحديثة عانة قمت في بعض الليالي للصلاة، ووجدت في قلبي حلاوة المناجاة، فدعوت الله تعالى فيما سنح، ثم قلت: اللَّهمّ أعدني إلى وطني، واجمع بيني وبين أهلي وولدي، ويسر اجتماعنا، وأعد روض الأنس زاهرا، وربع القرب عامرا، فقد قل العزاء، وبرح الخفاء، فسمعت قائلا على شاطئ الفرات يقول [بأعلى صوته][١] نعم نعم/ فقلت: هذا رجل يخاطب آخر، ثم أخذت في السؤال والابتهال، فسمعت ١٩/ ب ذلك الصائح يقول: إلى الحول إلى الحول. فعلمت أنه هاتف أنطقه الله تعالى بما جرى الأمر عليه، فكان خروجه من داره حولا كاملا خرج في ذي القعدة ورجع في ذي القعدة.