للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تؤملون، ويصيعون العمل حَتَّى نزل بهم من العقوبة ما بلغكم يوشك من سلك المفازة بغير ماء أن يهلك عطشا، أراكم تتكلون [١] عَلَى الرجاء فِي هلاك أبدانكم، ولا تتكلون عَلَيْهِ فِي صلاح معايشكم، أرأيتك مدائنكم التي بنيتموها واعتقدتم فيها الآيات، لو قيل لكم سينزل عليكم ملك بجيوشه فيعم أهلها بالقتل، وبنيانها بالهدم، هل كنتم تطيبون نفسا بالمقام فيها والبنيان بها؟ قالوا: لا، قال: فو الله إن أمر هَؤُلاءِ الآدميين لصائر إِلَى هَذَا، قالوا: قد أشربت قلوبنا حب الدنيا، قَالَ: / مع الأسفار البعيدة تكون الأرباح الكثيرة، فيا عجبا للجاهل والعالم كيف استويا فِي هلاك أنفسهما، ألا أن الذي يسرق ولا يعرف عقوبة السارق أعذر من العارف بعقوبته، وإني أرى هَذَا العالم يبذلون أنفسهم دون أموالهم، فكأنهم لا يصدقون بما يأتيهم به أنبياؤهم. قالوا: ما سمعنا أحدا من أهل الملك [٢] يكذب شيئا مما جاءت به الأنبياء، قَالَ: من ذلك أشتد عجبي من اجتماعهم [٣] عَلَى التصديق ومخالفتهم [٤] فِي الفعل، قالوا: أَخْبَرَنَا كيف أول معرفتك للأمور؟ قَالَ: من قبل الفكر تفكرت فِي هلاك هَذَا العالم، فإذا ذلك من قبل أربعة أشياء جعلت فيهن اللذات، وهي أربعة أبواب مركبة فِي الجسد، منها ثلاثة فِي الرأس:

العينان والمنخران والحنك، وواحد فِي البطن وهو الفرج، فالتمست خفة المؤنة فِي هَذِهِ الأبواب فوجدت أيسرها مئونة باب المنخرين، ثم التمست الخفة المئونة الحنك، فإذا هو غذاء لا قوام للجسد إلا به، فإذا صارت تلك المئونة فِي الوعاء استقرت، فتناولت ما تيسر من المطعم والمشرب، وصرت بمنزلة رجل كان يتخذ الرماد من الخلنج والصندل فثقلت عَلَيْهِ المئونة، فاتخذ الرماد من الزبل والحطب. ونظرت فِي مئونة الفرج فإذا هو والعينان موصلان بالقلب، فلم أجد شيئا أصلح لهما من العزلة وبغض إِلَى منزلي الذي كان فيه [٥] مقامي مع من لا يعقل إلا أمر دنياه، فتخببت هَذَا المنزل فقطعت عني أبواب الخطيئة، وحسمت فِي نفسي لذات أربعا وقطعتهن بخصال أربع.


[١] في الأصل: «تتوكلون» وما أوردناه من ت.
[٢] في ت: «أهل الملة» .
[٣] في الأصل: «اجتماعكم» وما أوردناه من ت.
[٤] في الأصل: «مخالفتكم» وما أوردناه من ت.
[٥] في الأصل: «الّذي كنت فيه» ، وما أوردناه من ت.

<<  <  ج: ص:  >  >>