[امتثال شرع الله محبة له تعالى]
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة الكرام! إذا كان الله عز وجل ودوداً يتودد إلى عباده، ويتحبب إليهم بنعمه، فنحن نعلم يقيناً أن المرء لو رزق النبل وسلامة الأصل لا يقابل فعل الكريم بلؤم.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فأي رجل عنده نبل لا يعق ربه أبداً، من قرت عينه بالله قرت به كل عين، وأنس به كل مستوحش، وأمن به كل خائف، وفرح به كل حزين، وعز به كل ذليل، وجرب من عق ربه عز وجل أرسل طرفك معه وهو يعامل عباد الله، لا يخلو من لؤم أبداً، أما الإنسان الأصيل فلا يعق ربه.
فإذا كان الله عز وجل يتحبب إلينا بذلك ونحن نُدبر عنه فيا ترى! ما هو العلاج؟ وما هو الحل؟ الحل أن تحب ربك، إنك إذا أحببته وهو أهل للحب لا يحب لذاته إلا الله، لا نبي ولا ملك، يحب لذاته، وإنما أحببناهم لأن الله قربهم، ولأن الله عز وجل اجتباهم واصطفاهم على العالمين؛ لذلك أحببناهم، ولو نزع الله عز وجل منهم الاصطفاء لأبغضناهم، إذاً: فلا يحب لذاته إلا الله عز وجل.
إذا حققت معنى العبودية لم تر مشقة لأمر ولا لنهي، إن راكب مركب الحب لا يضل، الحب مطية لا يضل راكبها، والعبادة بالحب وإن قلت أفضل من العبادة بالخوف وإن عظمت وزادت، ولذلك ترى في عبادة المحبين من الروح مالا تراه في عبادة غيرهم؛ لأنهم يعبدون الله عز وجل حق عبادته، ولله در أبي الطيب المتنبي لما قال وهو يقرب هذا المعنى: يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سرّكُمُ ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمو ألم هذا عنوان صدق المحبة! طالما أنه راضٍ فلا أشعر بألم الجرح، وفي بعض الأدعية التي تعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنها بسند ضعيف أنه كان يناجي ربه، فيقول: (لك العتبى حتى ترضى، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي) وهذا هو معنى الحب، فإذا أحب الله عز وجل ورضي فلن تشعر بأي تكليف، ولا بأية مشقة، ولله در الشاعر المجيد أبي الشيص الذي قال أيضاً في توضيح هذا المعنى: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخراً عنه ولا متقدم وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً ما من يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم إذ كان حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم إن علاج هذا الإدبار أن تحب ربك.
ونحن نقول للداعين إلى الله عز وجل: لا تبغضوا الله إلى الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الناس: (إن منكم منفرين)، فالمفتي إذا كان هناك وجهان في الدليل: شديد ويسير، فلا جناح عليه أن يأخذ في خاصة نفسه بالأشد، بحسب ورعه، لكن لا يجوز له أن يحمل الناس على الأشد إن كان اليسر له وجه في الدليل، فإذا حمل الناس على الأحوط فالأحوط فهو من المنفرين؛ لأن الأحوط فالأحوط معناه: الأشد فالأشد فالأشد، (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) إذاً: حببوا الله إلى الناس، وكان علي بن أبي طالب يقول كما رواه البخاري في صحيحه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، فاترك المجهول بالنسبة للناس الذي لا يضرهم الجهل به، وعليك بالمعروف.
لما جاء عثمان بن أبي العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم) رعاية للضعيف، فإن القوي لا يضره إذا قصرت الصلاة لكن الضعيف يضره إذا طالت الصلاة، فقال: (اقتدِ بأضعفهم)، ولما (صلى معاذ بن جبل بقومه فافتتح صلاة العشاء بالبقرة ترك شاب الصلاة وصلى في ناحية المسجد وحده وانصرف، فقيل لـ معاذ: إن فلاناً ترك الصلاة خلفك، فقال: (إنه لمنافق) فبلغ ذلك الشاب، فشكى معاذاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ؟) فالشاب شكى للرسول عليه الصلاة والسلام، قال له: نحن أصحاب نواضح، نسقي طوال النهار، ونحن متعبون من العمل، وهذا يصلي معك العشاء ثم جاء فافتتح البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك: (أفتان أنت يا معاذ؟ هلّا صليت بالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى) فلما سمع الشاب قول معاذ: إنه لمنافق قال الشاب: (سيعلم غداً)، فلما كانت أول غزوة قتل هذا الشاب فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ما ظنك؟)، أي: أين ذهب ظنك، وهل صدق لما قلت عنه: إنه منافق؟ إن الله تبارك وتعالى يقبل الصلاة من الخاشع الخاضع ولو كانت بالحد الأدنى منها، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واقتدِ بأضعفهم) ليس المقصود بها الصلاة فقط، بل هذا قانون، فإنك إذا حملت الناس قسراً على عبادة الله عز وجل ولم يكن عندهم من المحبة ما يقاوم ذلك أدبروا؛ لذلك كانت من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيّر بين أمرين اختار أيسرهما، وهكذا عليك أن تكون بشرط: أن يكون للأيسر حظ من الدليل، ليس أن تذهب فتأتي بالرخص، وترخص للناس كل شيء بلا دليل، لا، بل الشرط أن يكون له وجه في الدليل.
فمحبة الرحمن تبارك وتعالى هي التي تسهل عليك العبادة، فلا ترى فيها تكلفاً ولا مشقة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا حبه وحب من أحبه، وكل عمل يقربنا إلى حبه، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.