[قصة الثلاثة الذين خلفوا ودلالتها على خيرية الصحابة وتميزهم]
تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك، وكعب هذا كان رجلاً أميراً في الجاهلية، فلما أسلم صار من عوام البشر، وعانى الفقر أيضاً برغم أنه كان أميراً لقد خرج من ماله ومن داره، وأرجو أن تتصور: خرج من ماله! على حد قول بني إسرائيل لبعض أنبيائهم {أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:٢٤٦]، والمتأمل يعلم أن كلمة (أبنائنا) معطوفة على (ديارنا) مكسورة، فكأنه أخرج من داره وأخرج من ولده، وكيف يخرج من ولده؟ أي: ينسلخ.
وهذا يبين عظم المصيبة التي يعانونها أُخرج من داره ومن ولده، كأنما اختطف ولده منه فأخرج منه، لقد كانا كالشيء الواحد فانفصما، فـ كعب بن مالك مثال لواحد من الصحابة الذين خرجوا من ديارهم وأموالمه، وقد تخلف عن غزوة تبوك، ولم يتخلف لكونه يستهين بالغزو، إنما تخلف لشيء عرض في نفسه، وظن أنه يدرك الغزو، ففشل في ذلك.
لقد كان له بستان أو حائط، وقد أجمع النبي صلى الله عليه وسلم على الغزو، فكان يذهب إلى البستان وينظر هل أينعت ثمرته فيقطفها قبل أن يغزو أم لا، فما زال يروح ويجيء، وكان قد جهز راحلتين قبل الغزو، وهذا مما يبين أنه جاد في أن يغزو، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه خرجوا إلى الغزو وهو يقول: غداً أقطف الثمر، فيذهب غداً فيقول: بعد غد حتى يطيب، ثم يقول: أنا قادر على اللحاق بهم إن أردت؛ لأن معه راحلة قوية، فما زال يمني نفسه أنه سيدركهم، حتى تفارط الغزو، وأيقن أنه لن يدركهم.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك، قال: (ما فعل كعب بن مالك؟)، فقال رجل: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه -لأنه كان رجلاً أميراً، فإذا لبس شملة أو بردة تكبر فيها واختال ونظر إلى أكتافه من العجب- فقام معاذ بن جبل وقال له: بئس ما قلت! والله ما نعلم إلا خيراً.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو، جاء المعذرون من الأعراب يعتذرون، ويبدون أعذاراً واهية: إن بيوتنا عورة أنا ضعيف أنا رجل إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت إلى غير ذلك من الأعذار الواهية، ويحلفون على ذلك، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
فجاء كعب بن مالك واثنان آخران معه ممن صدقوا واعترفوا أنه لا عذر لهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع، وكان هلال بن أمية ومرارة شيخين كبيرين، بخلاف كعب بن مالك فكان أشد منهما سمعا الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه غضب عليهما، لأنهما لم يعتذرا بشيء.
حتى جاء كعب، قال: (فدخلت المسجد، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم لي تبسم المغضب، وقال: ما خلفك؟ ألم تعد راحلتين؟! فقلت: يا رسول الله! والله لو كنت عند غيرك من أهل الدنيا، لرجوت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً -رجل جدِل يستطيع بحلاوة لسانه أن يقلب الحق باطلاً- وأوشك إن حدثتك بحديث كذب ترضى به اليوم عني؛ أن يسخطك الله تبارك وتعالى علي، فوالله ما كان لي من عذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق).
يقول العلماء: لهذه العبارة مفهوم آخر وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق)، فكأنه يشير إلى أن المنافقين الذين قبل علانيتهم لم يصدقوا، وإلا فما معنى تخصيص كعب بن مالك بالصدق دون كل أولئك؟ فمفهوم المخالفة منه: (وأما الآخرون فقد كذبوا).
لكنه صلى الله عليه وسلم يعلِّم الأمة أنه لا يجوز لأحد أن يستطيل على قلب أحد، ولا أن يحكم على الذي فيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان أحد يعلم الغيب لكان هو أولى الناس بأن يعلم الغيب، فهذا تشريع، والنبي عليه الصلاة والسلام يسُن لمن يأتي بعده فيحكم على منواله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (قم حتى يقضي الله فيك)، هذه قضية واحدة من مئات من القضايا التي تحدث كل يوم.
فانظر إلى جيل الصحابة فقد منعهم النبي صلى الله عليه وسلم من كلام أولئك الثلاثة، وليس عليهم رقيب إلا الله تبارك وتعالى، قال كعب: (فكنت أمشي في الأسواق فلا يكلمني أحد، فألقي السلام فلا يرد أحد).
ولعل قائلاً يقول: إلقاء السلام واجب، فكان المفروض أن يؤدى هذا الواجب إلى كعب.
فيقال: إنهم أخذوا النهي على إطلاقه: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا)، فيشمل كل كلام، بما فيه إلقاء السلام، وهذا هو الفهم الحق: أنك إذا نهيت عن شيء فتنتهي عن كل مفرداته، إلا أن يأتيك دليل خاص يخرج هذه الجزئية من النهي العام.
ولماذا هذه القاعدة غير مفهومة لنا؟ لأننا بالنسبة لديننا أعاجم، بالنسبة للغة العربية أعاجم؛ فترى المرء منا يسمع كلاماً ولا يعقل معناه، برغم أنه بلسان عربي مبين! أعرف كثيراً من الناس حفظوا قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:٣] يحفظها وهو ابن سنتين أو ابن ثلاث، ويموت وهو لم يعرف ما هو الغاسق وما معنى (وقب)، حفظها ومات ولم يعرف معناها.
لذلك فسوء الفهم بالنسبة للغتنا العربية ينجر على جميع النصوص؛ إذ هي بالعربية أيضاً.
(نهى عن كلامنا أيها الثلاثة) فينتهي المسلمون جميعاً حتى عن رد السلام الواجب، (فكنت أمشي في الأسواق فلا يكلمني أحد، وألقي السلام فلا يرد أحد).
وأبلغ من ذلك: أن كعباً يقول: (فكنت أدخل المسجد فألقي السلام، فأتساءل: هل النبي صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) عقوبة.
قال كعب: فلما ضاقت علي الحال، وكنت كما وصف الله عز وجل: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:١١٨]، لما ضاقت عليه الحال ذهب إلى بيت ابن عمه وأحب الناس إليه، وهو أبو قتادة الأنصاري، وكان في بستان، قال كعب: فتسورت الحائط -أي: تسلقته- فنظرت فإذا أبو قتادة مسند ظهره إلى الحائط، وليس إلا أنا وهو، فقلت له: السلام عليك يا أبا قتادة! فوالله ما رد علي السلام أين هذا الجيل؟! أين هؤلاء الناس؟! مع أن كعباً يقول: وليس إلا أنا وهو، حتى لا يقال: إنه مرائي، أو إنه يخاف من أحد أن يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رد عليه، قال: فقلت له: نشدتك الله يا أبا قتادة! أما تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فلم يرد عليه، فكررها عليه ثلاث مرار: نشدتك الله! أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟! ذنب واحد فقط ارتكبه كعب بن مالك.
فقال له أبو قتادة: الله أعلم! قال كعب: ففاضت عيناي.
ونزل مكسور القلب، فبلغه أمر آخر وهو أن يعتزل امرأته يعتزل امرأته!! هل كفر؟! لأنه لا تطلق المرأة إلا بيمين طلاق أو إذا كفرت أو إذا كفر الرجل! فاعتزلها.
وظل خمسين ليلة يعدها عداً حتى جاء الفرج، ونزلت توبة الله تبارك وتعالى عليهم، فجاء رجل يركب فرساً بعد صلاة الفجر، وكان كعب يصلي الفجر على سقف البيت، قال: بينما أنا أصلي إذ سمعت صوتاً يقول: أبشر يا كعب بن مالك! فسجدت.
لم يكن يعلم من أين الصوت ولا من قائله، فقد كان رجلاً يركب فرساً، وكان الصوت أسرع من الفرس، يقول: أبشر يا كعب بن مالك بتوبة الله عليك! قال: فلما جاءني الرجل خلعت عليه ثوبي، ووالله ما أملك غيرهما -من الفرح- واستعرت ثوباً، وذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما إن دخلت المسجد حتى قام إلي طلحة بن عبيد الله فالتزمني، وهنأني بتوبة الله علي، فوالله لم يقم غير طلحة، ولست أنساها لـ طلحة، وأقبلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم طلعت عليك فيه شمسه).
فقال كعب: إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل قال كعب: فما أعلم أحداً ابتلي بصدق الحديث ما ابتليت أنا، ووالله ما كذبت قط منذ هذه.
لماذا لم يكذب؟ لأنه لما صدق برأه الله عز وجل، رأى العاقبة، ثم في المقابل رأى عاقبة المنافقين الذين ذمهم الله عز وجل برغم قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلانيتهم.
قال: وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي من عمري.
انظروا في هذه القصة! موقف واحد يؤمر المسلمون فيه بأمر فينصاعون جميعاً، حتى وإن كانوا كارهين.
كعب بن مالك ابن عم أبي قتادة، وأبو قتادة أحب الناس إليه، كان يمكن أن يقول له: لا تقنط من رحمة الله، لا تيئس، سيجعل الله لك فرجاً، ويبشره، وهناك نصوص كثيرة عامة في التبشير، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بشروا ولا تنفروا)، لكنه أبى، وامتثل للأمر مع كونه لا يحب ذلك.
وهذه هي طبيعة المسلم: أن يكون كالجمل الأنف، حيثما قيد إلى الخير وإلى البر انقاد، وأن يضع حظ نفسه على الأرض فيدوسه؛ لأن حظ النفس مخلوط بكبر وعجب واعتداد بالرأي، فحظ نفسك ضعه تحت قدمك وكن كالجمل الأُنف.
ولو نظرت إلى مفردات معاملات الصحابة لوجدتهم فعلاً كانوا خير أمة أخرجت للناس.
انظر إلى المسلمين اليوم، أهؤلاء هم خير أمة أخرجت للناس؟! أهؤلاء خير أمة؟! معاملاتهم رديئة المنكر موجود الحرام موجود، وكل امرئ يخشى، يريد أن يقبع في الجحر.