[ضرورة المبادرة إلى طلب العلم قبل الاشتغال بغيره]
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن أبي شيبة والدارمي وغيرهما بسندٍ صحيح: (تفقهوا قبل أن تسودوا) وهذا الأثر ذكره البخاري بغير إسناد في صحيحه كمقدمة لحديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) فقال أبو عبد الله البخاري: وبعد أن تسودوا.
ما هي الحكمة من ذكر البخاري رحمه الله لهذه الجملة؟ حتى يبين أن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا مفهوم له، ما هو معنى: لا مفهوم له؟ أي: حتى لا يتصور أحد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي: قَصَرَ الفقه على ما قبل السيادة، حتى لا يتوهم أحد أنه إذا صار سيداً لا يتفقه.
وهذا ما يقول فيه العلماء في دلالة المفهوم: أنه خرج مخرج الغالب، فإذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، ما معنى هذا؟ ليتضح المقصود نضرب مثلاً بقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠]، فهل يفهم أنه يجوز أن نأكل الربا ضعفاً واحداً؟ لا.
وإن كان هناك من الناس من فهم هذا وصرح به ممن يدعون العلم، وصرح به على صفحات الصحف قال: إن الربا الذي نهى الله عنه هو الربا المركب، إنما الربا البسيط لم ينه عنه بدليل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠]، فلم ينه الله أن يأكل المرء في الربا ضعفاً واحداً، إنما الذي نهى الله عنه في الربا المركب أضعافاً مضاعفة.
فالعلماء يقولون: هذا خرج مخرج الغالب للوصف الذي كانت قريش تتعامل به، وهذا يشبه لو أنني قلت لك: إياك أن تفسق في الحرم! فهل يجوز لك إذا خرجت خارج الحرم أن تفسق؟
الجواب
لا.
وأيضاً قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧] أيجوز في غير الحج الرفث والفسوق والجدال؟ إنما خرجت هذه الآية لشيء غالب على تصرفاتهم، كما لو قلت لك: لا تقتل أخاك بالسكين، فهل يجوز أن تقتله بعصا أو بحجرٍ أو بصخرة؟ فالله تبارك وتعالى عندما قال: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠] يشير إلى ما كانت قريش تفعله حقيقة: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠] ليس معنى هذا أنه أباح لهم أن يأكلوا الربا ضعفاً أو نصف ضعف، إنما نبه على شيء غالب كانوا يفعلونه.
فإذا خرج الكلام مخرج الغالب على فعلهم فلا نستطيع أن نقول له: مفهوم، كذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣]، فهب أنهن لم يردن تحصناً؛ أيجوز أن نتركهن إن أردن البغاء؟ لا يجوز طبعاً، فهذه الآية كما يقول الحافظ ابن كثير: خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣].
فالذي يخرج مخرج الغالب لا يكون له مفهوم، من أجل ذلك خشي الإمام البخاري أن يتصور بعض الناس أن مقصود عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: (تفقهوا قبل أن تسودوا) أن يفهم منه أنه بعد أن يسود لا يتفقه؛ لذلك قال: وبعد أن تسودوا، حتى يبين أنها ليس لها هذا المفهوم الذي قد يتبادر إلى البعض.
فالإمام البخاري قدم بأثر عمر رضي الله عنه لحديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) للدلالة على أن من ثمرات العلم السيادة؛ لذلك قال: تفقه قبل أن تصير سيداً؛ لأنك إذا صرت سيداً فغير ممكن أن تقعد في صفوف المتعلمين.
لذلك قال الإمام الشافعي: إذا تصدر الحدث فاته علم كثير والحدث: الصغير الذي لم يجمع العلم، إذا تصدر وصار رئيساً فقد فاته علم كثير؛ لأن هذه الصدارة وهذه السيادة تمنعه كبراً أن يقعد في صفوف المتعلمين فيتعلم، فالإمام البخاري من وجهة نظر ابن المنير السكندري في كتابه العظيم (المتواري على تراجم أبواب البخاري) يربط ما بين الحديث وما بين الترجمة التي كتبها؛ لأنه أحياناً يكون في العلاقة بين الترجمة وبين الحديث خفاء وغموض.
كجواز التمندل أي: أن تنشف أعضاء الوضوء بعد الوضوء، فالإمام البخاري أراد أن يحتج لجواز هذا الفعل بحديث ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (توضأ فدفعت إليه المنديل فرده) فالعلاقة هنا خفية؛ لأن الحديث واضح في أن الرسول عليه الصلاة والسلام رد المنديل لم يأخذه منها فلم يتنشف، فكيف يحتج البخاري على جواز التنشيف بحديث ظاهره عدم التنشيف، فهنا نجد خفاءً وغموضاً ما بين الترجمة التي كتبها البخاري وما بين الحديث الذي احتج به.
فالعلماء يعملون أفكارهم، في وجه العلاقة بين هذه الترجمة وبين الحديث؟ فيقول مثلاً الإمام ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري يقول: في هذا دليل على جواز التنشيف كما أراده البخاري؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان من عادته عدم التنشيف لما دفعت إليه المنديل، فانظر إلى الذكاء، فكونها دفعت إليه المنديل دل على أنه يتنشف لكن الأفضل عدم التنشف، فدل على أن الأغلب من فعله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يتنشف بعد الوضوء، لكن في الحديث جواز التنشيف.
فالأئمة ينظرون في ترجمة الإمام البخاري على الباب وينظرون ما العلاقة بين ما استنبطه الإمام البخاري وبين حديث الباب، فكتب ابن المنير السكندري هذا الكتاب الرائع والذي نقله الحافظ ابن حجر برمته في فتح الباري، وأحياناً كان بعض الأئمة يعترضون على ابن المنير في بعض استنباطاته، كما اعترضوا عليه في حديث ابن مسعود الذي نحن بصدده.
فـ ابن المنير السكندري يرى أن الإمام البخاري وضع أثر عمر بن الخطاب قبل حديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) فيقول: لأن السيادة من أثر العلم، فإذا رأى الناس رجلاً سيداً حسدوه، وإنما ساد في الناس بالعلم إذاً لا حسد إلا في العلم، هذا ما استنبطه ابن المنير السكندري.
فالحافظ ابن حجر قال: كذا قال، وهذه العبارة يذكرها العلماء من باب الاعتراض، لكنه اعتراض مهذب، دون أن يهجم عليه بغير أدب، أو يقول: هذا خطأ وهذا جهل وهذا ضلال وهذا، فإذا قال العالم هذه العبارة -كذا قال- عُلم أنه معترض على ما قد قيل، وهو اصطلاح موجود عند أهل العلم، لكنه اصطلاح رقيق إما أن يكون غير موافق على قوله بجملته أو على بعض قوله.
فالحافظ ابن حجر لم يرتض ما استظهره ابن المنير السكندري واستظهر شيئاً آخر وقال: إنما أراد أن المال إنما يحسد صاحبه، عندما يصير الرجل سيداً بالعلم والمال معاً، فالحافظ ابن حجر قال: إنما يصير سيداً بالعلم والمال معاً، ثم يرتكز على العلم.
واستدل بحديث أبي كبشة الأنماري الذي ذكرت: رجل آتاه الله مالاً وعلماً هذا بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا بثاني المنازل، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط.
إذاً: المال وحده لا يؤدي إلى السيادة ما لم يقترن معه العلم، وهذا فهم رائع من الحافظ ابن حجر، دله عليه حديث أبي كبشة الأنماري فكيف يستطيع هذا الرجل صاحب المال أن يسلط ماله على هلكته في الحق إلا إذا كان عالماً، على الأقل بموضع الإنفاق.
لا نقول: يجب أن يكون عالماً بكل شيء، بل أن يكون عالماً بالموضع الذي ينفق فيه ماله، فلا يحسد صاحب المال إلا إذا سبقه علمه، بدلالة حديث أبي كبشة الأنماري؛ لأن الذي يؤتيه الله المال فقط بغير علم قال عليه الصلاة والسلام: (فهو يخبط) والرجل الثاني آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا بثاني المنازل يعني في الفضل، فدل على أن العلم يجب أن يكون ركيزة.
فصاحب المال لا يحسد إلا إذا انضم العلم أيضاً إلى المال، وهذا فهم رائع جداً من الحافظ ابن حجر جاء في حديث معاوية بن أبي سفيان في الصحيحين، لما خطب على المنبر وقال: (أيها الناس! أين علماؤكم؟! فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).
وبدلالة مفهوم المخالفة: ومن لم يرد به خيراً لا يفقه في الدين، وهذا مفهوم صحيح؛ لأن الرجل إذا علم علوم الأرض كلها وجهل العلم الذي يوصله إلى الله تبارك وتعالى يكون من أخسر الخلق.