[أمر الله لنبيه بالازدياد من العلم]
من فضائل العلم: أن الله عز وجل أمر نبيه بالازدياد منه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤].
وما نعلم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يزداد من شيء إلا من العلم، فدل على أنه أفضل شيءٍ؛ لأن الله عز وجل لا يختار لنبيه إلا الأكمل والأفضل؛ بينما المال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً) والنبي عليه الصلاة والسلام لا يدعو لنفسه إلا بالأكمل والأفضل، (قوتاً) أي: إذا وجد العشاء ربما لا يجد الإفطار، وإذا وجد الإفطار ربما لا يجد الغداء، فكأنه قال: اللهم اعطني غدائي فقط، فإذا جاء وقت العشاء دعوتك، أو إذا جاء وقت الإفطار دعوتك، يفعل هذا ليتعلق قلبه بالله، فأكثر الأغنياء غافلون عن ذكر الله؛ لأن لديهم رصيداً في البنك، ولديهم تجارة، فهم لا يخشون الفقر على الإطلاق، بل كلما أرادوا شهوةً فهم يعلمون أن عندهم ما يقضيها من المال، لذلك قل أن يسأل ربه؛ لأنه غير مفتقر، ولا محتاج.
أليس من العقوق أن تجلس على مائدة فيها كل ألوان الطعام والشراب، ولا تذكر اسم الذي أنعم عليك كل هذه النعم؟ أليس هذا عقوقاً أنك لا تهتف باسمه، وتقول حتى: باسم الله الذي رزقني هذا، وما حرمني؟! أقل درجات الوفاء: أن تذكر اسم الذي أنعم عليك، لكنه لا يذكره، ولا يسمي؛ لأنه ركن إلى ما عنده من المال، بخلاف الفقير، الذي يهتف باسم ربه بكرةً وعشياً، فهو محتاج: يا رب! اغنني، يا رب! سد جوعتي، يا رب! ارفع عني، فهو دائم الحاجة إلى الله؛ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا فقال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) حتى لا يتعلق قلبه إلا به، فهو الذي يقضي الحوائج للناس، أما إذا قام مقامه شخص آخر، فلربما تعلق القلب به، وهذا بداية الشرك: أن يتعلق القلب بغير الله عز وجل.
فلم يستكثر من الدنيا، بل لما مات صلى الله عليه وسلم لم يكن في بيته غير سبعة دنانير فقط، ولما أفاق من كرب الموت قال لـ عائشة: (أخرجي الدنانير، ثم أغشي عليه، فلما أفاق سأل عائشة: أأخرجت الدنانير؟ قالت: شغلني مرضك، فقال: ما ظن محمدٍ بربه إذا لقي الله وعنده هذه) كأنما أراد أن يطهر بيته من دنس الدنيا قبل أن يلقاه، ولو كانت الدنيا خيراً لحازها ولحرص عليها؛ لكنه كان يقول لنا: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء).
ويرحم الله عز وجل الحسن لما قال: (هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فإن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه).
وأي معصية أعظم من أن يتعلق قلب المرء بالدنيا، أمر الله عز وجل نبيه أن يدعوه: بأن يزداد من العلم وزوى الدنيا عنه؛ لخساستها، ولو رضيها لأوليائه ما مكن الكافرين منها، وعنده مقاليد كل شيء، أفيعطي المال لـ قارون ويحجبه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ والله ما أعطاه لـ قارون إلا لهوان قارون عليه، قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٨٢]، فأثبت الجهل لهم: (لا يعلمون) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣].
رجل عقيم يتمنى الولد، بذل كل ماله في طلب الولد، وأخيراً جاءه الولد، لكنه أذله الولد إلى الأبد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} فلم لا تسلم لربك وترضى بقضائه عليك؟ فإذا حرمك الولد، فقل: إنه يرعى مصلحتي؛ لأنه لو رزقني الولد ربما أتعبني، فحسن ظني بربي يقتضي أنه رءوف بي لم لا تقل هذا؟ لم لا تقل كما قال أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:٨٣]، لم يقل: فاشفني، احتمال أن الرجل المريض إذا صح عصى الله بصحته، فيكون مرضه خيراً من صحته، وما يدريك؟ وإنما قال: ((وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))، فحسن الظن بك يا رب يقتضي أنك جعلت لي الأمثل والأفضل والأصلح.
فلماذا لا تعامل ربك هذه المعاملة؛ يشملك حسن الظن به: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣]، لكن هذه الآية: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٨٢] أي: من حيث يجهلون أن هذا يضرهم ولا ينفعهم {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم اغفر ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا