فهذا الرجل جاء وارتكب مخالفات: أول مخالفة: أنه ألصق ركبتيه بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية: أنه وضع يده على فخذي النبي عليه الصلاة والسلام، وورد في بعض الروايات:(فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذي نفسه)، ولو عمل هكذا لتأدب بآداب أهل العلم، فلو أعملنا الرواية الأولى يكون قد بالغ في تعمية أمر نفسه على الصحابة، لأنه جعل نفسه أعرابياً ويريد أن يفهمهم كلهم أنه أعرابي، وأنى له أن يكون أعرابياً وهو شديد بياض الثياب وشديد سواد الشعر؟ المسألة واضحة تماماً، لكن أحب أن يعمل نفسه أعرابياً حتى يعمي أمره على الصحابة، وهذا على الرواية الأولى.
وعلى الرواية الثانية: أنه وضع يديه على ركبتي نفسه وهذه هيئة المتعلم، إذاً هو لزم أدب طلاب العلم، ونحن نقول لإخواننا الطلبة ونحن منهم: لا يجوز لك أن تخلع (زي) التلميذ ما دمت تطلب العلم، ولا تزال تطلب العلم إن كان فيك خير إلى أن تموت، فإذا اقتنع المرء بالذي طلبه فقد بدأ في النقصان، إذاً مسألة أن تتأدب مع من تأخذ عنه العلم هذا يفيدك أكثر مما يفيد شيخك، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل.
والإمام أحمد بن حنبل مع جلالته كان يجلس تحت قدمي عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ولا شك أن الإمام أحمد أجل وأحفظ وأفضل من عبد الرزاق، فـ عبد الرزاق بن همام الصنعاني إمام أهل اليمن، وهو الذي أعطى اليمن الحظوة هو ومعمر بن راشد أبو عروة رحمة الله على الجميع، فكان الإمام عبد الرزاق وابن معين يجلان الإمام أحمد، وكان ابن معين من أصحابه، فكان عبد الرزاق بن همام الصنعاني يميزهما، وفي المجلس كان عبد الرزاق يقول لـ أحمد: اجلس بجانبي، فيأبى ويجلس تحت قدميه ويقول:(هكذا أمرنا أن نفعل مع شيوخنا)، ولم ينزل مقدار أحمد ولا قدره لما تواضع لشيخه، برغم أنه أفضل من شيخه: قد يبلغ الضالع شأو الضليع ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع وهذا كلام الشوكاني عندما قال له مشايخه: اشرح منتقى الأخبار لـ أبي البركات ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية ذرية بعضها من بعض، كان أبو البركات شيخ الحنابلة، وابنه عبد الحليم كان شيخ الحنابلة، وابنه أحمد الذي هو ابن تيمية الإمام الكبير كان شيخاً للإسلام، فـ أبو البركات له كتاب اسمه منتقى الأخبار من كلام سيد الأخيار عليه الصلاة والسلام، فشرحه الشوكاني في كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، فيقول الشوكاني: إن مشايخه ألحوا عليه -ويغيظني كثيراً أن واحداً ما زال قزماً يأخذ هذه الكلمة الكبيرة ويقول: فلما كثر إلحاح إخواني عليَّ وبرغم كثرة مشاغلي، حتى أني لا أجد الوقت الذي أحك فيه رأسي، لكن قلت: أمري إلى الله وشرحت الكتاب الفلاني، ويكون الحديث غير ذلك، لكن الكتاب ينبي عن صاحبه-، فعندما تقرأ نيل الأوطار ستعرف أن مشايخه قالوا له افعل كذا وكذا وجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى ثم تمثلت قول الشاعر: قد يبلغ الضالع شأو الضليع ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع يعني: أنا وإن كنت ذا عرج أمشي خلف الصف، فإن سبقت فكم لرب الورى من فرج، وإن تخلفت فما على أعرج من حرج، فأنا فعلاً أعرج وأمشي خلفهم، فإذا سبقتهم فكم لرب الورى من فرج، وإن تخلفت عنهم فليس على الأعرج حرج، وهذا معنى كلام الشوكاني، فيقول: قد يبلغ الضالع شأو الضليع يعني: إن كنت ضالعاً وما زلت تلميذاً فقد يمن الله عز وجل علي فأبلغ شأو الضليع والكبير، فإن لم يكن كذلك فلتكن الأخرى.
ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع.
مع أنه ليس بعاقل، يعني: هو متعاقل ورفيع أيضاً، فإذا قلنا: يا جماعة من العقلاء؟! قالوا: فلان، فيعدون في جملة العقلاء، فهو يقول: أنا وإن لم أصب الأولى فدخولي في جملة أهل العلم يجعلني منهم، ولو على سبيل المجاز.
فلو أعملنا هذه الرواية:(وضع يديه على فخذي نفسه) فيكون قد تأدب بأدب طلاب العلم، إذاً يجب أن يلزم الطالب الأدب إلى أن يرفعه شيخه، فإذا رفعه شيخه فلا بأس أن يطيع من باب الأدب أيضاً، مثل ما كان يفعله الفضل بن دكين أبو نعيم رحمه الله مع الإمام أحمد بن حنبل ومع الإمام يحيى بن معين، فذكر ابن حبان وغيره: أن الفضل بن دكين كان إذا جلس للتحديث يجلس على دكاة -والدكاة المكان المرتفع- ويجلس أحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن شماله، فذات مرة أراد يحيى بن معين أن يختبر حفظ شيخه الفضل بن دكين، فكتب أحاديث في ورقة وخلطها بأحاديث غير الفضل، وهو يعرف أحاديث كل راوٍ، فأتى بعدد من الأحاديث في ورقة وخلط أحاديث الفضل بأحاديث رواة آخرين، ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي: إذا خف المجلس فناول أبا نعيم هذه الورقة وسله: هل هذا من حديثك؟ فقال أحمد بن حنبل لـ يحيى بن معين: يا أبا زكريا! الرجل حافظ لا تفعل! فقال: لابد، يعني: لازم أعمل فيه هذا المقلب، وكان يحيى بن معين جريئاً، ولذلك كانوا يخافون منه، ولما مات تقدم رجل جنازته وقال: هذه جنازة الذاب الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عنده جرأة، فقال: لابد، فبعد أن خف المجلس قام أحمد بن منصور الرمادي وأعطاه الورقة، فنظر فيها الفضل وارتفعت عينه، ودارت حدقته، إذاً كشف الملعوب، ما دام عمل هكذا فقد اكتشف الملعوب، ثم سكت ساعة -ولست أعني بالساعة ستين دقيقة، وإنما فترة زمنية- ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي: أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وأما هذا -يعني ابن حبنل - فآكد من أن يفعل هذا، وليس هذا إلا من عمل هذا -يعني ابن معين -، قال: ثم أخرج رجله ورفسه فألقاه من على الدرج، وقال: عليَّ تعمد!! فقام يحيى بن معين وقبل جبهته وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، فانصرف أبو نعيم مغضباً فقال له أحمد: قلت لك!! فقال يحيى: والله لرفسته أحب إليَّ من رحلتي.
وهذا هو ضرب الشيوخ الذي هو مثل أكل الزبيب، لماذا؟ لأنه ظفر بحفظ الفضل، وخرج من هذه العملية كلها بمكسب كبير، وهو أن يسجل شهادته للفضل بن دكين بأنه حافظ ضابط.