[الاختلاف في الفروع لا يفسد للود قضية]
إن البعد عن التمسك بالنصوص الشرعية يكلف المسلمين تكليفاً باهضاًَ جداً، فتجده يتعصب لجهله ولا أقول لعلمه، فإن لدينا من الضعف والهوان أضعاف ما أوتي أسلافنا من الجد والقوة، فقد كانوا يتفاضلون بالعلم ونحن نتفاضل بالجهل، كان يقال: فلان أعلم من فلان، نحن الآن نقول: فلان أقل جهلاً من فلان، فمن مصائبنا ترك التعلم، وسبب وجود الفئات المنحرفة عن الكتاب والسنة هو ترك التعلم والتعصب للجهل، ولا أقول: التعصب للعلم؛ لأن التعصب للعلم خير، ويدخل في ذلك المجتهد، فإنه نظر في الأدلة الشرعية فيثبت على ما يعتقد أنه الحق، وهذا لا يُلام.
كان ابن حزم في الأندلس يذهب إلى اجتهادات يخالف فيها الكتاب والسنة، وكان يرى أنه على حق وأن مخالفه على خطأ، فكان إذا علم أنه على الحق جهر بالحق، فهذا هو التعصب للعلم.
وفي مثل هذا يقول ابن حزم: قالوا: تجمَّل فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محنُ أي: لا داعي أن تجهر بما تعتقد جهاراً نهاراً، لكن تجمل وتلطف بلسان الحق الذي تعتقده.
فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أقول بالرأي إذ في رأيهم ثمنُ أي: فساد.
وأنني مولع بالنص لست إلى سواه أرنو ولا في نصره أهن لا ضيفين في صدري وفي كتبي ويا سروري به لو أنهم فطنوا دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من قالتي عندي له كفن فهذا يعتقد أنه على الحق فلا يضره أن يجهر الآن بين المسلمين من يتعصب لبعض آرائه بالجهل، ولا أقول: بالعلم؛ لأن العلماء يسعهم الاختلاف، والجهال لا يسعهم الاختلاف، لذلك تجد المسلم إذا اختلف مع أخيه المسلم في مسألة فرعية يسيرة، ولست أقصد بقولي: (يسيرة) أنها يسيرة من جهة الشرع لا، أقصد أنها بالنسبة لمثيلاتها عند المتعصبين تعد يسيرة.
مثلاً: من يرى الضم بعد الركوع الثاني، أو يرى أن الوتر واجب، أو يرى القنوت في الفجر دائماً.
إن أولئك إنْ اختلفوا في مثل هذه المسائل الفرعية الكثيرة جداً، لعل بعضهم -وقد رأينا- يترك المسجد الذي يصلي فيه أخوه.
إذا رأيتَ رجلاً يسعه الخلاف شرعاً في المسائل الفرعية مع آخر؛ فاعلم أنه على قدر من العلم؛ لأنه يعذر هذا المخالف، لا يبدعه ولا يؤثمه، لاسيما إن كان الخلاف فيها معتبراً، أي: لا يجوز لك أن تبدع المخالف فيها؛ لأن للمخالف محمل ووجهة نظر معتبرة على أصل من الأصول، لأنه فهمها هكذا، وقد فهم بفهمه جماعة من العلماء السابقين.
هذا اسمه خلاف معتبر؛ مثل مسألة ارتداء النقاب الواقعة بين الوجوب والاستحباب، فلا يجوز لأحد أن يبدع الآخر فيه، لكن لو وجد من يرى حرمة النقاب، فإن هذا الخلاف لا يعتبر؛ لأنه جاهل، ولأنه لم يفت بهذه الفتوى أحد من المحدثين إطلاقاً، وإنما القول فيها واقع بين الاستحباب والوجوب، وهذان القولان معروفان عند العلماء.
وهذا الذي يرى حرمة النقاب يرى عدم حرمة أن تكشف المرأة عن فخذيها أو ساقيها أو نحرها أو صدرها، فهل رأيتم عالماً ممكن أن يتصور هذه الصورة؟! عندما ننظر الآن إلى عوام المنتسبين إلى هذه الدعوة المباركة، نراهم في خلافاتهم الفرعية وقد ضاق عقلهم، ولا يتحمل بعضهم بعضاً، فنحن نقول: إن هذا بسبب الجهل.
وأنا أذكر هنا أمثلة تبين هذه المواقف، وأن الاختلاف الفرعي لا يفسد للود قضية -كما يقولون-.
عندنا بعض المسائل اختلف فيها الصحابة رضوان الله عليهم، فالذي ذكرته آنفاً بين ابن عباس وأبي هريرة، اختلاف يسعه الشرع، طالما أن المختلف عالم، أو على الأقل أدنى ضوابط العلم أو بعضها موجودة عنده.
وهناك مثال آخر أخرجه أبو داود في سننه: قيل لـ ابن مسعود: (إن عثمان -رضي الله عنه أيام كان أميراً للمؤمنين، وكان أمير الحج- يصلي الظهر في منى أربعاً).
فـ ابن مسعود استرجع قائلاً: (إنا لله وإنا إليه راجعون) إن هذا خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، وصلى أبو بكر ركعتين، وعمر ركعتين، بل وعثمان أيضاً، في بداية خلافته صلى ركعتين، فما باله الآن يصلي أربعاً؟! فلما أُذِّن للصلاة؛ قام فصلى خلف عثمان أربعاً، فاستعظموا هذا الفعل منه، فقال لهم كلمتين اثنتين دلتا على عظم فقهه رضي الله عنه، قال: (الخلاف شر)، فنحن نفترض الآن أن جماعة قالوا برأي ابن مسعود وقالوا: لا، النبي عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ أربعاً.
وأنت خالفت النبي عليه الصلاة والسلام، وخالفت أبي بكر وعمر، ألا فلا يصلى خلفه، من أراد أن يصلي اثنتين فليأتِ وراءنا فماذا سيكون حال المسلمين وقد انقسموا إلى فرقتين بين يدي الله عز وجل في أعظم شعائر الإسلام وهو الحج؟! كان رأي ابن مسعود ثاقباً، وهذه قضية متأصلة عند علماء الأصول: أن رأي المجتهد ليس بحجة على مجتهد آخر.
فمثلاً: الآن أبو حنيفة أفتى بفتوى، والشافعي أفتى بفتوى، لا يلزم الشافعي برأي أبي حنيفة؛ لأن الشافعي عالم مجتهد عنده أصول تمكنه أن يستنبط كـ أبي حنيفة تماماً، إنما يكون رأي المجتهد حجةً على مَن هو دونه من العوام؛ لأن العامي ليس عنده ملكة الترجيح ولا الاستنباط، فله أن يتبع رجلاً من المجتهدين.
فـ ابن مسعود رضي الله عنه رأى أن عثمان ما فعل ذلك لهوىً في نفسه، بل تأول، فقال لهم: (إن لي أهلاً بمكة) أي أنه أصبح مقيماً، فرأى أن القصر إنما يكون للمسافر، فقال: أنا لستُ بمسافر، فلِِمَ أقصر الصلاة؟ إذاً عثمان بن عفان فعَلَ هذا اجتهاداً منه، ووافقته عائشة رضي الله عنها في هذا الاجتهاد.
وكذلك ما رواه الإمام أحمد بسند فيه مجهول، أن أبا ذر الغفاري لما كان في الربذة، قيل له: (إن عثمان أتم، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون) وهذا يدل على خطأ الفتوى من وجهة نظره، ومع ذلك عندما أقيم للصلاة صلى خلفه ولم ينازع عثمان.
فانظر كيف أن خلافاً مثل هذا وسعهم.
ولو حدث هذا بل لو حدث أقل من هذا بكثير جداً في وقتنا لحدثت عليه مقاطعات وتشنيعات.
بل أنا أقول مثالاً أعظم من هذا: لما أراد عثمان بن عفان أن يجمع المصحف، قال لهم: (إن اختلفتم في شيء؛ فارجعوا إلى قراءة زيد بن ثابت؛ فإن القرآن نزل بلسان قريش) وقد كانت السور تكتب على الأوراق والعظام بغير ترتيب، أي بالترتيب الذي كان صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (ضعوا هذه الآية في سورة كذا) وأقصد بكلمة (بغير ترتيب) أي: على غير الترتيب الموجود الآن.
فلما كانت العرضة الأخيرة في رمضان الأخير للنبي عليه الصلاة والسلام؛ جاء جبريل فعرض المصحف مرتين على النبي عليه الصلاة والسلام، فاستقر المصحف على ما هو عليه الآن، ولذلك تجد المصاحف السابقة مثل مصحف أبي بن كعب أن سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، وتجد سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة، للتقارب الشديد جداً بين السورتين؛ ولذلك بعض الأئمة كالإمام السيوطي له كتاب قيم جداً اسمه "تناسق الدرر في تناسب السور" بين فيه أن هناك علاقة قوية جداً بين كل سورتين متتابعتين، مثل سورتي الفيل وقريش؛ فإن قريشاً كانت لها رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانت هذه كل تجارتهم، ولو انقطعت هاتان الرحلتان لماتوا من الجوع؛ ولو دخل أبرهة أرضهم لعاث فيها الفساد، فالله تبارك وتعالى يمتن على قريش أنه أهلك أبرهة وجنوده، وجعلهم كعصف مأكول: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:١] أي: لأجل أن تظل الألفة بين قريش.
فـ عثمان بن عفان لما حدثت المعركة المشهورة التي قتل فيها القراء خشي أن يضيع القرآن بموت الحفظة، فأحب أن يجمع القرآن، فجعل لكل آية شاهدي عدل.
فقال: (إن اختلفتم في شيء؛ فارجعوا إلى قراءة زيد بن ثابت؛ فإن القرآن نزل بلسان قريش) وأمر عثمان بإحراق جميع المصاحف ما عدا المصحف الجامع الذي يسمى الآن بالمصحف العثماني نسبة إلى عثمان رضي الله عنه.
فماذا كان موقف ابن مسعود؟ قال: (والله لا أحرق مصحفي، أأنا أرجع إلى قراءة زيد؟ فوالله لقد أخذت سبعين سورة من فم النبي صلى الله عليه وسلم أقرأها عليه، وإن زيداً له ذؤابتان يلعب مع الصبيان) أي: أن زيداً كان لا يزال يلعب مع الصبيان، فأنا الذي أرجع إليه أم هو الذي يرجع إلي؟! وأبى أن يحرق مصحفه.
فقال عثمان: (أيها الناس! من كان عنده مصحف فليلغه، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:١٦١]) فقال ابن مسعود: أنا لا أرضى أن أقرأ بقراءة زيد.
فأجبره عثمان أن يترك الذي سمع من فم النبي عليه الصلاة والسلام، ولقد كان الذي مع ابن مسعود قرآناً، وأظن لو أن هذا حدث الآن لتقومن الأرض على قدم وساق، ولكن ماذا حدث في النهاية؟ لقد نزل ابن مسعود على رأي الجميع، وإنما هي حمية كان يراها في الخير، فإن كدر المجموع أفضل من صفو الفرد، لأن تتعكر وأنت مع إخوانك خير من أن تكون صافياً وأنت وحدك.
ولقد كانوا يأتون بالرجلين يشهدان للآية الواحدة، فلما جاءوا إلى قوله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣] الآية، ما وجدوها إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري وحده، فقبلوها منه باعتبار أن شهادته بشهادة رجلين، كما في الحديث الذي رواه أصحاب السنن كـ