التفات هذا القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ونفي الأسباب نقص في العقل، فلو أن رجلاً قال: أريد ولداً بغير نكاح، فكل العباد يقولون عنه: مجنون، أو قال: أريد أن أشبع بغير أكل، لقالوا: مجنون، ولو قال آخر: أريد أن أذهب إلى أول الشارع بغير سعي مني ولا مشي، يقولون: أنى لك ذلك؟! فمعنى أن يلغي العبد السبب أن يقول: لا قيمة له أبداً في الفعل، هذا القول نقص في العقل.
ولعله يأتي من يقول: إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض يمكن أن ينفي أن يكون السبب مؤثراً، نقول: بلى! يوجد أناس يقال لهم: الفرماوية يرون أن الأخذ بالأسباب كفر، ويرون أن من مرض فذهب إلى الطبيب فهو كافر، ومن أراد الولد فنكح فهو كافر، مع أنهم ينكحون ويذهبون إلى الأطباء، لأنه يستحيل أن ينفي السبب بالكلية وإلا مات، ولقد رأينا بعضهم وقد انقسموا فريقين: جماعة يلبسون قمصاً بيضاء، وجماعة يلبسون قمصاً خضراء، فالذي يلبس قميصاً أبيض لا يأخذ بالأسباب لأنه وصل إلى درجة اليقين.
كما أنه قيل لـ ابن الجوزي يوماً: إن فلاناً ترك الصلاة والزكاة وترك العبادة، لأن الله تبارك وتعالى يقول:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:٩٩]، وقال: إنه قد أتاني اليقين وأنا وصلت درجة رفع التكليف، فقال ابن الجوزي: نعم، وصل، ولكن إلى سقر.
فالذي وصل إلى هذه الدرجة من الفرماوية يلبس القميص الأبيض، أما الذي يلبس القميص الأخضر فهذا دءوب العمل لخدمة الصنف الأول دائماً، وهو الذي يأخذ بالأسباب، ومن عجيب أمرهم أنهم يعتقدون أن الذي يلبس الأخضر كافر كفراً مؤقتاً، حتى تدب الولاية -ولاية الشيطان- في قلبه فيلبس قميصاً أبيض.
وهذا الكلام لو عرضوه على أجهل خلق الله تبارك وتعالى ما قبله، لأنه يصادم صريح العقل، فإنكار أن تكون الأسباب أسباباً من حيث هي أسباب نقص في العقل بلا شك، ونحمد الله تبارك وتعالى أنه لا يوجد من هذه الطائفة أحد الآن، لقد كانوا يحرقون صحيح البخاري فلما سئلوا:، لماذا؟ قالوا: أصل البخاري شيوعي، أليس من الاتحاد السوفييتي؟! هذا لما كانت بخارى ضمن الاتحاد السوفييتي، أما الآن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى أين سينسبوا البخاري؟ وكانوا يقولون: كل أحاديث عائشة باطلة فلما قيل لهم لماذا؟ قالوا: صوت المرأة عورة، كل حديث عن أي امرأة غير صحيح، لأن صوت المرأة عورة.
وهكذا من يرد الأحاديث قائلاً: هذا مضاد لصريح العقل، وإذا وجدت حديثاً يضاد صريح العقل فاعلم أنه مكذوب!! وأنا أقول: صريح العقل ليس عقلك وحدك، إنما صريح عقل المسلمين، لأنه من الممكن أن يصادم عقلك أنت فقط، لكن لا يصادم عقل غيرك، هذا هو معنى القيد الذي وضعه علماء المسلمين عندما قالوا: إذا وجدت الحديث يخالف صريح المعقول فاعلم أنه مكذوب.
وهم يقصدون بصريح المعقول أي صريح معقول عقول المسلمين، ليس عقل واحد، ولا عقل اثنين، إنما عقول المسلمين.
ففعل الفرماوية هؤلاء وتأويلهم يضاد صريح عقول المسلمين، لذلك نجزم أنه من الباطل المحض الذي لا يتردد فيه إنسان.