[حلمه عليه الصلاة والسلام وسعة صدره]
نوصي المسلمين بقراءة الكتب التي صنفت في شمائله صلى الله عليه وسلم؛ ككتاب: أخلاق النبي لـ أبي الشيخ، وكتاب: الشمائل للإمام الترمذي صاحب السنن، فإنهم ذكروا طرفاً من حياته صلى الله عليه وسلم، فيذكرون مثلاً من حلمه وسعة صدره عليه الصلاة والسلام، ما أخرجه مسلم في صحيحه: (أن امرأة في المدينة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله! لي إليك حاجة.
فقال لها: نعم، وانتحى بها ووقف معها حتى قضت حاجتها)، وفي الحديث الآخر (أن امرأة -كهذه أو هي- كانت تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتطوف به المدينة فلا يمتنع عليها)، وكان إذا صافح رجلاً لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، وكان إذا أعطى أذنه رجلاً لا ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، يعني: إذا أعطاه أذنه يسمع له فإنه صلى الله عليه وسلم لا يبتعد حتى ينهي الرجل مقالته.
وهناك شيء شبيه بهذا، وهو الهاتف، مثلاً: رجل طلب آخر، وبعد أن انتهت المكالمة قال الرجل المطلوب للذي اتصل به: السلام عليكم، وهذا ليس على الهدي، إنما ينبغي أن يسلم الذي طلب، لماذا؟ لأنه قد يكون له حاجة، فاتركه حتى يبلغ حاجته، وإذا أردت أنت أن تنهي المكالمة فاسأله: هل لك حاجة أم لا؟ لاسيما أن الطالب هو الذي يدفع أجرة الاتصال؛ فلماذا أنت مستعجل؟ لا تنه المكالمة حتى ينهيها هو، فإن هذا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا صافح رجلاً لا ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع، أو حتى يكون هو الذي يتنحى.
وفي كرمه صلى الله عليه وسلم كانوا يروون حديث جابر -وهو في الصحيحين- (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سُئل شيئاً قط فقال: لا) أبداً.
وأنت تنظر أيضاً إلى سعة صدره وحلمه عليه الصلاة والسلام في حديث أنس المتفق عليه، قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط لشيءٍ فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي قط لشيء تركته: لم تركته؟) عشر سنين من حياته عليه الصلاة والسلام، لا يعاتبه، لأن كثرة العتاب تفسد الود، فلا تكثر من معاتبة صاحبك؛ فتقل حشمتك وتهون عليه، ولا تكاد تجد صاحباً يصافيك مائة بالمائة أبداً.
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه انظر إلى هذا الكلام كأنه مشتق من مشكاة النبوة! إذا كنت تريد ماء سلسبيلاً ليس فيه تراب ولا غبار ولا رمل إذاً مت من العطش، بل لابد أن تشرب الماء بالقذى؛ لأن الماء الذي ليس فيه شيء من ذلك لا تشربه إلا في الجنة، والذي هو السلسبيل، كذلك صاحبك إذا أردت صاحباً يوافقك مائة بالمائة إذاً عِش بلا صاحب، وإذا أردت زوجة لا تخالفك في قليل ولا كثير؛ إذاً الق الله عزباً ولا تتزوج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة) يعني: مستحيل، لو أن الرجل له مائة طريقة فالمرأة لها ألفان وهكذا، فيكون بينك وبينها بون شاسع في التقلب، وفي تعدد الطرق والمذاهب.
إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة، يعني: لا بد أن تغضب منها يوماً حتى وإن كانت أوفى الناس، وإن كانت أفضل الناس.
إذاً ليس هناك إنسان يصافيك مائة بالمائة إلا أن يكون كمثل أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي صافاه مائة بالمائة، وهو الذي وافقه مائة بالمائة، وهو الذي كان يحبه مائة بالمائة، ولا أعلم قط لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقفاً واحداً خالف فيه النبي صلى الله عليه وسلم أو اعترض عليه، بخلاف من جاء بعد أبي بكر بدءاً من عمر رضي الله عنه، فإن عمر رضي الله عنه كان يبدي رأيه بصراحة، أما أبو بكر فما كان كذلك؛ لشدة تعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
إن عمر جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية معترضاً فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى.
قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: ألم تخبرنا أنا نأتي البيت؟ قال: فهل قلت لك إنك تطوف به العام؟ قال: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به)، ولم يرفع هذا الكلام الحرج من صدر عمر، فانطلق إلى أبي بكر رضي الله عنه يعدد له نفس هذه الاعتراضات، (قال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى.
أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: أليس رسول الله حقاً؟ قال: بلى.
قال: ألم يخبرنا أنا نأتي البيت؟ قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به) فشابه قول أبي بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف؟ وقال له: (يا أيها الرجل! الزم غرزه، فإنه رسول الله وليس يخالفه).
وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عمر قبل أبي بكر: (إني رسول الله ولست أعصيه) هذا هو الصاحب الذي وافق صاحبه مائة بالمائة، ولا أعلم أحداً وافق الرسول صلى الله عليه وسلم مائة بالمائة حتى في المستحبات وفي رأيه، إلا أبا بكر الصديق.
إن أبا بكر وافق النبي صلى الله عليه وسلم في اجتهاده في أسرى بدر، ولم يعترض ولم يعارضه بخلاف عمر، وإن كان نزل القرآن موافقاً لرأي عمر، لكن أبا بكر وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لما وقعت حادثة الإفك وجاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبويها، وظلت شهراً تبكي حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد شهر كامل لا يتكلم، ولا يبرئ عائشة فجلس، فحمد الله وأثنى عليه، قالت عائشة: وكانت أول مرة يجلس فيها منذ كان ما كان، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه)، فشعرت عائشة أن في هذا الكلام اتهاماً لها، فقالت لأبيها: (أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: والله يا ابنتي ما أدري ما أقول.
فقالت لأمها: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: والله يا بنتي ما أدري ما أقول.
قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن، لا أحفظ كثيراً من القرآن: إنني لو قلت: إنني فعلت والله يعلم أنني ما فعلت لتصدقنني، ولو قلت: إنني لم أفعل، والله يعلم أني لم أفعل لا تصدقوني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] قالت: ثم تحولت، فوالله ما خرج أحد من البيت حتى أنزل الله براءتي).
فها هو أبو بكر رضي الله عنه لما وجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ولم يتكلم، ولم يفصل مع حاجته إلى الفصل في هذا، ومع حاجته أن يبرئ امرأته مما رماها به الواشون، وقف حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصاحبك مقارف ذنباً ومجانبه؛ فأقل من العتاب، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أقل الناس معاتبة، ولو عاتب لشعرت بقطرات الحنو والدفء في كلامه! روى البخاري في كتاب المرضى، وكذلك مسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه على حمار، وذهبنا نعود سعد بن عبادة -وذلك قبل وقعة بدر- فلما مررنا على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم، فقال عبد الله بن أبي -إشارة إلى التراب الذي أثارته رجل البغلة- قال: لقد غبر علينا، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الرجل! إن الذي تقول لحسن إن كان صدقاً، فلا تأت مجالسنا، فمن أراد أن يسمع كلامك فليذهب إليك، لكن لا تأتنا فإنا لا نحب ذلك.
فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! والله إننا لنحب أن تأتي مجالسنا، وقال آخر لـ عبد الله بن أبي ابن سلول: والله لرائحة بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب منك، وثاروا جميعاً حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكب البغلة يسكنهم حتى سكنوا، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة فدخل عليه وهو مريض، فقال لـ سعد: يا سعد! ألم تسمع ما قال أبو الحباب؟! - أبو الحباب هو: عبد الله بن أبي ابن سلول، فانظر إليه كيف كناه، والكنية إنما تكون للتشريف، مع أن عبد الله بن أبي ابن سلول سبه منذ قليل- فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله! اعف عنه واصفح، فإن كان يطمع أن يكون رأساً على أهل هذه البحيرة، فلما آتاك الله ما آتاك من النبوة شرق لذلك -وفي رواية: فأنزل الله عز وجل قوله {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:١٠٩]).
فانظر إليه صلى الله عليه وسلم ما أحلمه! لذلك خطف قلوب الناس، وأذعن له الكبير والصغير، والموافق والمخالف، إذ لم يأخذوا عليه شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، حتى إن هذا الذي شرق بما آتاه الله رسوله، يقول: إن الذي تقول لحسن لو كان صدقاً.
فأذعن لحسن كلامه عليه الصلاة والسلام، فيا ليتنا ونحن نبلغ دعوة الله عز وجل إلى الناس أن نكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم فنتأسى به.
إن الله عز وجل قال له مع شرف منصبه، وأن لا شرف في الدنيا أعلى من منصبه عليه الصلاة والسلام، قال له: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩]، مع حاجتهم إليك وإلى الإيمان بك، وأن المرء منهم لو كفر بك لا يلج الجنة أبداً، فإنك لو كنت فظاً غليظ القلب