من فوائد الحديث: جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً
دخل المسجد ووجد رهطاً عند المنبر فجلس عندهم، ثم أتى غلام فقال: (استأذن لـ عمر)، وفي هذا دليل على جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً أو بواباً، وأقول: جواز، وإلا لو رأى الحاكم أو الأمير أو الرجل الكبير، حتى ولو لم يكن له منصب رسمي، لكن له منصب في الناس، خاصة إذا رأى أنه لا يستقيم الحال إلا بحاجب حتى تضبط الأمور، ولا يقال له: أنت مفرط ولا مقصر، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـ أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة، اصنع لي رحى، قال له: أنا سأعمل لك رحى، والله أعلم أن عمر بن الخطاب كأنه فهم كلامه يتحدث بها أهل المشرق والمغرب.
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلق على هذه المقولة فقال: توعدني العبد، هذا أمير المؤمنين وهذا عبد، قال: توعدني العبد، يهددني ومع ذلك لم يتخذ قراراً إجرائياً، ولم يتخذ حاجباً، حيث ترك القضية هكذا برغم أنه قال: توعدني العبد، فلم لم تتخذ حاجباً طالماً توعدك؟ إذاً: اتخاذ الحاجب على الباب فيه دلالة على جوازه، فللأمير أو الحاكم أن يتخذ حاجباً أو بواباً إذا لزم الأمر، وإلا فله أن يترك ذلك.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة وهي تبكي، فقال: (اتق الله واصبري) قالت: إليك عني إنك لم تصب بمصيبتي، ثم تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخبرت المرأة أنه رسول الله، فانطلقت تسأل عنه، فجاءت فلم تجد حاجباً ولا بواباً؛ فدخلت إليه، فقالت: إنها لم تعرفه، فقال لها: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
يقول العلماء: الأحمق يجزع في المصيبة ويرتكب المخالفات، وبعد شهر تقول له: عظم الله أجرك، يقول لك: الحمد لله، بعد شهر يرضى بقضاء الله، لذلك لا يقال للذي استسلم للمقادير بعد الاعتراض: إنه صابر، لأنه استوعب المصيبة وما معه إلى الرضا فليس بصابر، إنما الصابر حقاً من إذا قرعته المصيبة فصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فقلت للغلام: (استأذن لـ عمر)، وفي هذا دليل على استحباب أن يسمي المرء اسمه عند الاستئذان، وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، قال: (جئت النبي صلى الله عليه وسلم فطرقت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أنا، قال: فسمعته من خلف الباب يقول: أنا أنا)، كأنما كرهها، فأنت حين تطرق الباب، فيقال: من؟ قل: فلان، لكن تقول: أنا أنا؟ ومن أنت؟ إن ابن الجوزي لما شرح هذا الحديث، أثبت فيه كراهة الحبيب صلى الله عليه وسلم لقول: أنا، قال: كأنه يقول: أنا الذي يُعرف نسبي، ولا أحتاج إلى ذكر اسمي، وتخيل كم في الدنيا من الناس لو قال كل واحد منهم: أنا، هل سيعرف من في الباب؟ كـ الفضل بن دكين رحمه الله، كان له طلبة وامتنع أن يحدث، لأنهم ضجّروه، فأحب أن يعاقبهم فامتنع عن تعليمهم فجاء شخص وطرق عليه الباب فقال: من؟ قال: رجل من بني آدم، ففتح الباب وأخذه بالأحضان، قال: ما كنت أظن أن هذا الجنس بقي منه أحد.
فـ (أنا) فيها نوع من الاعتزاز بالنفس، وأنت إذا نظرت إلى إبليس وجدت أنه دخل النار لما قال: أنا، وقارون أهلكه الله لما قال: أنا، وصاحب الجنتين لما قال: أنا أزال الله النعمة عنه، فاحفظ هذا يقول إبليس:: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:١٢]، ويقول قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨] المال هذا حصلت عليه بعبقريتي وذكائي وحساباتي الجيدة، والرجل الثالث قال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:٣٤]، وهو يحقره بالكلمة هذه، حيث استخدم أنا وهو يريد الكبر والأنفة، فقال له الضعيف: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:٣٩]، ولنا أن نقول: هناك فرق بين أنا التي جاءت على لسان الغني المتكبر، وأنا التي جاءت على لسان الآخر.
إن المؤمن حينما يقول: أنا، لا يقصد أن يتكبر بها ويفاخر، بخلاف غير المؤمن، والفرق: أن المؤمن قال: أنا، للمشاكلة فقط، لم يرد بها التفاخر كالآخر.
فيسن للمستأذن إذا سئل: مَن؟ أن يقول: فلان، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (قلت: استأذن لـ عمر)، (فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت)، والسكوت: علامة الرضا، فلماذا عمر لم يدخل؟! إذاً: المسألة فيها تفصيل، السكوت أحياناً يكون علامة عن الرضا، وأحياناً يكون علامة عن الغضب، فالسكوت علامة الرضا في الزواج مثلاً، وفي القعود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (تُستأمر البكر، قالوا: يا رسول الله، إن البكر تستحيي، قال: إذنها سكوتها)، إذا سكتت فقد رضيت؛ فالسكوت علامة الرضا.
أما السكوت في هذا الحديث فليس علامة الرضا، وكيف عرف ذلك بالقرائن، والرسول عليه الصلاة والسلام مغضب وهجر نساءه، هذه قرائن، فالقرائن هنا تدل على أن السكوت ليس علامة الرضا، إذا نحن نعتبر القرائن في فهم الكلام من السياق، والعلماء يقولون: السياق من المقيدات.
عندما تقرأ قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:٤٩]، ستظن بأنه لا عزيز ولا كريم، أليس كذلك؟ لأن السياق يدل على الإهانة، والتنقص ليس في النار عزة، كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:١٩٢]، فلا خزي أكثر من هذا، مع أن كلمة عزيز وكريم لو وضعتها في سياق آخر تؤدي نفس كلمة عزيز وكريم، لكن في هذه الآية أدّت العكس.
إذاً: السياق من المقيدات، وهذه مسألة مهمة جداً.
وبعض الذين احتجوا على نجاسة الدماء كلها، احتجوا بحديث أسماء، لمّا سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم قال: (واغسلي عنك الدم).
بينما هي لما سألته عن الدم، سألته عن الاستحاضة، وليس غيره، فلا يأتي شخص ويقول: الدم كله نجس، والدليل الحديث السابق، ولفظ (الدم) يفيد العموم، نقول له: لا، الكلام جاء في سياق الكلام عن دم الاستحاضة، والسياق من المقيدات، فلما جاءت لتسأله، إنما جاءت لتسأله عن دم الاستحاضة، لكن إن أردت دليلاً على نجاسة الدم مطلقاً فابحث عن حديث آخر يدل على نجاسة الدماء، أو أدلة أخرى، لكن لا تحتج بهذا الحديث على نجاسة الدماء؛ لأن اللفظ وإن خرج مخرج العموم إلا أنه خاص بدم الاستحاضة بدلالة السياق.
لما قال عمر: استأذن لي ثم استأذن له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وذهب إلى المنبر فجلس، قال (ثم غلبني ما أجد) أي: تعب، قال: فقمت، فقلت: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، فجلست عند المنبر، فغلبني ما أجد قلت: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخرج من الباب، وهو عند الباب ناداه، وقال: قد أُذن لك.
(فدخل عمر بن الخطاب).
وحين تدخل على شخص حزين لا تقل له: ما الحكاية من أولها؟ فيبدأ يحكي لك الموضوع ويبكي وما إليه، أنت لابد أن تنسيه الموضوع أولاً ثم تسمع منه، ف عمر بن الخطاب أول ما دخل قال: (فأردت أن أستأنس) أي: أطلب الأنس، ليس هذا وقت إعادة الحكاية من أولها، صحيح أنك تريد أن تسمع القصة، ولكن لا تبدأ بالحزن، بل قدم بين يدي القصة ابتسامة أو استأنس، ونحن ننصح الزوجة بأن تكون عندها فطنة وذكاء، فإذا كان بينها وبين زوجها إشكال في موضوع معين، فلا تباشره من أول دخوله بقولها: تعال نكمل الموضوع.
لا، المفترض أنه عند وصول الرجل تحوِّل الموضوع كله، وتغيره بمقدمة، ثم لا بأس بإكمال الموضوع، هذا هو معنى قول عمر (استأنس).
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (فأردت أن أستأنس، فقال: يا رسول الله، لو رأيتنا معشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) أليس هذا الذي حصل؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد فهم قصد عمر.
فقال عمر: (يا رسول الله لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فهو يهضم حق ابنته، ويقول لها: لا يغرنك أن كانت عائشة أجمل منك وأحسن، وأنت لست مثلها، فهو حط من قدر ابنته، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عمر بن الخطاب أنه تبسم مرتين، شعر عمر أنه أدى ما عليه من الأنس، فجلس، فلما جلس نظر في البيت إلى الجدران.
(قال عمر: لم أر شيئاً يرد البصر) أي: يملأ العين، قال: (فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فإنه وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله) أنت رسول الله وأنت أحق من قيصر وكسرى، قال عمر: (وكان متكئاً فجلس) وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم حين يكون الأمر خطر والخطب عظيم، ويريد أن ينبه المستمع إلى أهمية ما سيقول فإنه يجلس، (وكان متكئاً فجلس).
دخل الكسائي على هارون الرشيد، فقال له هارون: اجلس، قال له: بل اقعد يا أمير المؤمنين.
وكان العلماء يؤدبون الخلفاء، وكان الخلفاء يقربون العلماء ليتعلموا منهم، لما يكون هناك ولي العهد، لا يذهب ليلعب ويركب الخيل، بل هذا إنسان سيقود أمة، فيها من هو أفضل منه بكثير، فلذلك لا بد له أن يعيش بين العلماء فيتعلم الحكمة والعلم.
أمير من أمراء بني أمية كان يعلم ابنه ليكون ولياً للعهد من بعده، فأظن أن معلمه كان الأصمعي أو غيره من العلماء، كان يتحدث إلى هذا العالم حتى يلقِّن أولاده العلم، وجعل على هذا العالم والأولاد جاسوساً، لكي ينقل هذا الجاسوس كل كبيرة وصغيرة تدور في المجلس لأمير المؤمنين، فقد يكون المعلم غير