[الافتقار وعدم الاستغناء عن الغير]
(ذكاء وحرصٌ وافتقار) الافتقار معناه: أنك مهما حصّلت من العلم فلا تظن نفسك على شيء، بل تظن أنك محتاج بصفة دائمة إلى غيرك، وأول ما تشعر بالاستغناء عن الغير تكون قد خسرت كثيراً، ولذلك ترى تكبر الناس بعضهم على بعض، واستهانة بعضهم ببعض بالجهل والبغي والعدوان؛ كل هذا بسبب أنهم لم يجربوا هذه الصفة (الافتقار).
وقد كان المشايخ يذعنون لتلاميذهم، قال يونس بن عبد الأعلى رحمه الله: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة فاختلفنا، فجاءني إلى بيتي وطرق بابي ودخل، فأمسك بيدي وقال: يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟.
وهذا الكلام نهديه إلى العشرات الذين تعج بهم الساحة الإسلامية الآن: (يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!) أي: لا نكون إخوة إلا إذا اتفقنا (١٠٠%)؟! ومنذُ متى اتفق الناس؟! فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قادة الناس، ومعادن العلم، وأولى الناس بكل فضيلة اختلفوا، وعندما تنظر في اختلافهم تجده اختلافاً رفيعاً، فالذين إذا اختلفوا تفرقوا يدل ذلك على أنه لم يجمعهم أصل جامع، وإلا فقد تفرقني عنك مسألة وتجمعني بك ألف مسألة!.
تعال أيها المختلف معي، وابسط مسائلك جميعاً، وانظر كم مسألة أنا متفق معك فيها، تجدني متفق معك في أكثر المسائل وأغلبها ولا أختلف معك إلا في الشيء القليل.
إذاً: فلماذا نختلف؟! الإمام الترمذي روى في سننه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) فاعترض عليه ابن عباس، وقال: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعامٍ أجده في كتاب الله حلالاً؟! يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم -أي: الماء الساخن-؟ أي: إذا اغتسلت بماءٍ ساخن، فهل يلزمني أن أغتسل بعدها بماءٍ بارد! إذاً: فما فائدة تسخين الماء؟! فقبض أبو هريرة رضي الله عنه كفه بعد أن ملأها حصى وقال: (أشهد عدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضئوا مما مست النار.
يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال).
وما علمنا أن أبا هريرة خاصم ابن عباس، مع أن هناك مسائل أخرى اختلفوا فيها، وكذلك عندما منع عمر بن الخطاب أبا هريرة من التحديث لم يحقد عليه.
فأولئك كانت تجمعهم أخوة الإيمان، وكل شيء يأتي بعد ذلك فأخوة الإيمان أقوى.
لذلك افتقار طالب العلم مسألة مهمة جداً، أن يشعر دائماً أنه لم يصل إلى شيء، وأن يذعن لغيره، وهذا الإمام البخاري، وهو الإمام العلم الكبير، حدث عن تلميذه الإمام الترمذي، حتى إن الترمذي عندما كان يروي هذا الحديث كان يقول: أخذه عني محمد بن إسماعيل كنوع من التبجح والتفاخر أن أستاذه أخذ عنه.
وما أجمل ما قاله سفيان الثوري رحمه الله: لا ينبل الرجل -أي: لا يكون نبيلاً- حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه؛ لأن الكتابة عن الإنسان الذي هو تحتك بدرجة العلم أو الفضل نوع من النبل.
والافتقار مهم جداً لطالب العلم، وأساسه التواضع وعدم الاعتداد بالنفس.